الحمد لله الذي أوضح سبيل الحقيقة، وبين و دعى إلى منهاج الطريقة، و اصطفى بعض القلوب و أزال عنها التعلق بالخليقة، حتى تكون محلا للأنوار الملكوتية الرقيقة، و وعاءا للأسرار الجبروتية الدقيقة…نحمده تعالى حمد عبد اشرقت في قلبه الأنوار ورُفع عنه الحجاب حتى ذاق طعم الإيمان وتحدث بنعمة المنان ونسأله تعالى سؤال عبد قد تبرأ من حوله وقوته أن يذيقنا برد الرضا والتسليم بسر رياح لطائف رضيت بالله ربا و بالإسلام دينا وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا…وبعد
لقد ابتلي أهل الله تعالى – الذين اجتباهم الحق تعالى للدلالة عليه بالأقوال و الأفعال و الأحوال و أقامهم بين الخلق رحمة منه تعالى وتكرما – ابتلوا بإذاية الخلق لهم و الانكار عليهم وعلى أحوالهم واتهامهم بما ليس فيهم…وذلك في كل عصر وزمان وعلة ذلك أنهم ورثة الأنبياء بحكم ” العلماء ورثة الأنبياء ” فيقع للوارث ما وقع لمورِثه من الاعراض عن دعوته ومحاولة اطفاء نوره وقد اخبرنا العزيز الحكيم عن حال الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم مع أقوامهم فقال : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون )الذاريات الآية 52…لكن لا قدرة لمخلوق على اطفاء نور الخالق فسراب الأغيار لا ثبوت له أمام شمس الحقيقة قال تعالى : ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) الصف الآية 8..
وفي زماننا هذا لما تباعد الناس عن حقيقة الدين بسبب التربية السطحية التي يتلقونها عن الاسلام وبما يتشربون منذ صباهم من أفكار دجالية وثقافات غربية طمست البصائر وجعلت التدين صورا لا روح فيها…فاصبح بعضهم يرد بعض تعاليم الاسلام واصوله من حيث يشعر أو لا يشعر وخاصة فيما يتعلق منه بمرتبته الثالثة : الاحسان ولك أن تسميه ما شئت تصوفا أو تزكية أو غير ذلك…المهم الحفاظ على حقيقة هذا الركن العظيم في القلوب و الارواح و الجوارح، ومن العجيب أنك تجد بعض المحسوبين على العلم عندما يتوجهون نحو هذا المقام دراسة وتحقيقا تحت مسماه المشهور بالتصوف يرجعون نسبة اصوله إلى الغنوصية و الفلسفات اليونانية القديمة وتعاليم بوذا وتجدهم يعتمدون في هذه الدراسات على ابحاث المستشرقين كأبحاث نيكلسون وماسينون وجولد تسيهر الذين درسوا الاسلام ولم يعتنقوه…ولا عتب على هؤلاء وانما العتب على من تلقى افكارهم من ابناء جلدتنا بالقبول كأنها وحي يوحى مع العلم أن نفس الدراسات التي اقيمت على التصوف من قبل المستشرقين اقيمت كذلك على علوم الحديث و علوم القرآن و السيرة النبوية لكن الامة ردت الشبهات التي اوردوها حول كل ذلك ومريض القلب فقط من يصدق تلك الدراسات ويروج لها مع ان فيها الغث والسمين ويغلب عليها السم في الدسم…والذي نؤمن به أن التصوف كعلم لا ينال بالدراسات العقلية و لا يجري عليه ما يجري على المدارس الفكرية الاخرى، إنما هو سلوك وذوق لا يفهم معناه الا من خاضه وجربه فالزهد والتوكل والشكر و المشاهدات و الاسرار إلى غير ذلك من المقامات القدسية لا تُعرف حقيقة معانيها الا بالذوق لا غير
وحتى لا نتشعب في الكلام سنقتصر على رد الشبهات التي أصبحت تنال روح التصوف الحق بشكل عام و بالطريقة الكركرية بشكل خاص…وذلك أن جوهرة التصوف ومعدنه قائمة على وجود النور المحمدي الذي هو منصة الشهود و الذوق وبه تقام دولة الأخلاق على أرض النفوس…لذلك فالنيل منه نيل من الروح وسدٌ لباب الفتوح، وهذه الشبهات التي تثار حول النور هي شبهات واهية، لا تعتقدها إلا القلوب اللاهية، ومن مخافة الرحمن خالية، ويزداد الأمر خطورة عندما يصدر مثل هذا ممن ذاق شيئا من الأنوار ثم أدار ظهره لها بسبب غلبة الجهل واتباع الهوى والرغبة في الدنيا، فيُخشى على من هذا حاله ان يدخل فيمن عرف ثم أنكر ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” القلوب أربعة : فقلب أجرد ، فيه مثل السراج يزهر ، فذلك قلب المؤمن وسراجه فيه نوره ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، فذاك قلب الكافر ، وقلب منكوس ، وذلك قلب المنافق ، عرف ثم أنكر ، وقلب مصفح ، وذلك قلب في إيمان ونفاق ، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها ماء طيب ، ومثل المنافق فيه كمثل القرحة ، يمدها القيح والدم ، فأي المدتين غلبت صاحبتها غلبت عليه ” رواه أبو نعيم في الحلية موقوفا عن أبي سعيد الخدري.
وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه : ” القلوبُ أربَعةٌ قلبٌ أجرَدُ فيهِ مثلُ السِّراجِ يزْهرُ وقلبٌ أغلَفُ مربوطٌ على غلافِهِ وقَلبٌ منْكوسٌ وقلبٌ مصفَّحٌ وأمَّا القلبُ الأجردُ فقلبُ المؤمنِ سراجُهُ فيهِ نورُهُ وأمَّا القلبُ الأغلَفُ فقلبُ الْكافرِ وأمَّا القلبُ المنْكوسُ فقلبُ المنافقِ الكافِرِ عرفَ ثمَّ أنْكرَ وأمَّا القلبُ المصفَّحُ فقلبٌ فيهِ إيمانٌ ونفاقٌ ومثلُ الإيمانِ كمثلِ البقلةِ يمدُّها الماءُ الطَّيِّبُ ومثلُ النِّفاقِ كمثلِ القُرحةِ يمدُّها القيحُ والدَّمُ فأيُّ المادَّتينِ غلَبت على الأخرى غلَبت عليْهِ ” الراوي : أبو سعيد | المحدث : السيوطي | المصدر : الدر المنثور،الصفحة أو الرقم: 1/463 | خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد.
ونبدأ بالشبهة الأولى
يقولون أن هذه الأنوار ما هي إلا تلبيسات شيطانية ولا علاقة لها بالنور المحمدي و يستدلون على ذلك بقصة اختلفت أساليب روايتها بين العلماء وقد ذكرها غير واحد منهم وروج لها خاصة الشيخ ابن تيمية رحمه الله في الاستقامة وتلميذه ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين عن الشيخ الكامل سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه…فقد حكى عنه ابنه موسى رحمه الله كما قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله : ( سمعت والدي يقول : خرجت في بعض سياحتي إلى البرية ومكثت أياماً لا أجد ماء فاشتد بي العطش فأظلَّتني سحابة نزل على منها شيء يشبه الندى، فترويت منه ، ثم رأيت نوراً أضاء به الأفق وبدت لي صورة، ونوديت منها : يا عبد القادر أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات
أو قال :ما حرمت على غيرك ,
فقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اخسأ يا لعين، فإذا ذلك النور ظلام , وتلك الصورة دخان ،
ثم خاطبني وقال :يا عبد القادر نجوت مني بعلمك بحكم ربك وفقهك في أحوال منازلاتك، ولقد أضللت مثل هذا الواقعة سبعين من أهل الطريق.
فقلت : لربي لفضل والمنَّة .
قال : فقيل له : كيف علمت أنَّه شيطان ؟
قال بقوله : وقد أحللت لك المحرمات ) شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن عماد الحنبلي ج 4 ص 200.
وذكرها الامام الشاطبي رضي الله عنه بهذا اللفظ : ” يُحكى عن عبد القادر الجيلاني أنه عطش عطشاً شديداً، فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب، ثم نودي من سحابة: [يا فلان! أنا ربك، وقد أحللت لك المحرَّمات، فقال له: اذهب يا لعين. فاضمحلت السحابة]. وقيل له: بِمَ عرفت أنه إبليس؟ قال: بقوله: قد أحللت لك المحرَّمات. ” الموافقات، المجلد الأول ج 2، دار الكتب العلمية بيروت 2005م، الطبعة 7، اعتنى به عبد الله دراز
وذكرها الإمام ابن مفلح المقدسي – وهو من أعلام المذهب الحنبلي وكان معاصرا للشيخين ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله جميعا و أثنى عليه العلماء – قال : قال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه : ” اشتدّ علي الحرّ في بعض الأسفار يوما حتى كدت أن أموت عطشا ، فظلّلتني سحابة سوداء ، وهبّ عليّ منها هواء بارد حتى دار ريقي في فمي ، وإذا بصوت يناديني منها : يا عبد القادر أنا ربّك . فقلت له : أأنت الله الذي لا إله إلا هو ؟ قال : فناداني ثانيا ، فقال : يا عبد القادر أنا ربّك ، وقد أحللت لك ما حرّمت عليك ، قال : فقلت له : كذبت عدوّ الله بل أنت شيطان ، قال فتمزقت تلك السحابة ، وسمعت من ورائي قائلا : يا عبد القادر نجوتَ مني بفقهك في دينك ، لقد فَتنتُ بهذه الحيلة قبلك سبعين رجلا ….فقيل للشيخ – عبد القادر – كيف عرفت أنّه شيطان ؟ قال: من حين قال: ” أحللت لك عرفته ، لأنّ بعد الرسول صلى الله عليه وسلّم لا تحليل ولا تحريم “مصائب الإنسان من مكائد الشيطان لابن مفلح المقدسي، دار الكتب العلمية،ط1 ص 87
والجواب على هذه الشبهة من وجوه
الوجه الأول : أن سيدي عبد القادر الجيلاني رحمه الله لم يرد هذه الحيلة الابليسية حتى وجد فيها ما يخالف الشرع الشريف و بالضبط قول اللعين له ( قد أحللت لك المحرمات ) ففطن بالحيلة بهذا الأمر لا بغيره بدلالة جوابه عندما سئل كيف أنه تمكن من معرفة ذلك، وهذا الاصل هو الأساس في الطريقة الكركرية بمعنى عرض المنازلات و الأحوال والمشاهدات على مشكاة النبوة القرآن والسنة، و لنفترض أن الشيطان لو قال له كلاما يوافق الشرع هل كان يسعه رده..كلا، خاصة و أنه يعلم أن سيدنا أبا هريرة رضي الله عنه علمه الشيطان أية الكرسي فقبلها لعدم مخالفتها لما جاء في الوحيين و القصة رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه : عن أبي هريرة قال: (وَكَّلَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعليَّ عيالٌ ولي حاجةٌ شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود.
فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيالٌ ولن أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً شديدةً وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود.
فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود ثم تعود، قال: دعني وسوف أعلمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي – اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم [البقرة:255]- حتى تختم الآية، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح؛ فخليت سبيله.
فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: وما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: – اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم [البقرة:255]- وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطانٌ حتى تصبح -وكانوا أحرص شيءٍ على الخير- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، أتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة ؟ قال: لا. قال: ذاك الشيطان
ومما يدل أيضا على أن الشيطان لا يظهر بصفة النور وانما بصفة الظلمة ما روي عن أبي الأسود الديلي قال : قلت لمعاذ بن جبل – رضي الله عنه – : حدثني عن قصة الشيطان حين أخذته ، فقال : ( جعلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على صدقة المسلمين فجعلت التمر في غرفة ، فوجدت فيه نقصانا ، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : ” هذا الشيطان يأخذه ” قال : فدخلت الغرفة فأغلقت الباب علي فجاءت ظلمة عظيمة فغشيت الباب ، ثم تصور في صورة فيل ، ثم تصور في صورة أخرى ، فدخل من شق الباب فشددت إزاري علي فجعل يأكل من التمر قال : فوثبت إليه فضبطته فالتقت يداي عليه فقلت : يا عدو الله ، فقال : خل عني فإني كبير ذو عيال كثير وأنا فقير وأنا من جن نصيبين وكانت لنا هذه القرية قبل أن يبعث صاحبكم ، فلما بعث أخرجنا عنها فخل عني فلن أعود إليك فخليت عنه ، وجاء جبريل عليه السلام فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما كان ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح فنادى مناديه : أين معاذ بن جبل ؟ ، فقمت إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ” ما فعل أسيرك يا معاذ ؟ ” فأخبرته فقال : ” أما إنه سيعود ” فعاد قال : فدخلت الغرفة ، وأغلقت علي الباب فدخل من شق الباب ، فجعل يأكل من التمر فصنعت به كما صنعت في المرة الأولى ، فقال : خل عني فإني لن أعود إليك ، فقلت : يا عدو الله ألم تقل : لا أعود ؟ قال : فإني لن أعود وآية ذلك أن لا يقرأ أحد منكم خاتمة البقرة فيدخل أحد منا في بيته تلك الليلة ) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين وقال : حديث صحيح الإسناد
والقصة تكررت كذلك مع عدة صحابة رضي الله عنهم ومن جملتهم سيدي عبد الله بن مسعود وسيدي أبي بن كعب رضي الله عنهما، ويستفاد منها ما يلي
أن الشيطان يمكنه أن يظهر للسالك ويخبره بأشياء، ولكن السالك عليه أن يعرض أحواله على شيخه حتى يبصره ويرشده
أن الشيطان قد يقول صدقا رغم كون صفته الأصلية الكذب
أن الشيطان لا يمكنه أن يظهر بصفة النور بدليل حديث سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه
أن الشيطان إذا أخبر بما يوافق الحق يجب العمل بذلك الحق المخبر عنه، بالضبط كما فعل الصحابة
أن السالك إلى الله تعالى يشاهد ما هو علوي وما هو سفلي، ويشهد لذلك كون الصحابة رضي الله عنه منهم من شاهد جبريل عليه السلام و شاهد الشيطان لعنة الله عليه.
أن الميزان في ضبط الأحوال و المشاهد هي موافقتها للكتاب والسنة، كما أن الصحابة رضي الله عنهم لما شاهدوا ما شاهدوا أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
الوجه الثاني : أن الشيخ الجيلاني رحمه الله لم يستدل بهذه الواقعة على بطلان شهود النور المحمدي وحاشاه رضي الله عنه والذي يدل على ذلك كلامه في كتبه عن أهمية النور حيث يرى أن بلوغ النور لا يكون إلا للخاصة من عباد الله تعالى فمن ذلك قوله بعد كلام طويل يصف فيه حال العبد الذي يريد مولاه وكيف عليه بالإضطرار فيقول : ( غاية أسفار القوم قرب الحق، السير سير القلوب، سير الأسرار، إذا وصلوا إلى الباب إستأذن السر فيؤذن له، ثم يستأذن بعد الأنس للقلب، صار نجم قلب النبي صلى الله عليه وسلم قمرا، والقمر شمسا، والخلوة جلوة، والباطن ظاهرا ) الفتح الرباني والفيض الرحماني لسيدي عبد القادر الجيلاني، شركة القدس للنشر والتوزيع، القاهرة 2009، ص 290
وهذا الكلام هو عينه طريق السلوك عند الطريقة الكركرية بحيث إذا أذن الحق للعبد في فتح باب الدخول عليه يشرق في قلبه نجم المصطفى صلى الله عليه وسلم على يد شيخه ثم إذا زاد عطشه ووزن حاله و أفعاله بميزان الشرع يصير النجم المحمدي في قلبه قمرا فإن زاد في القرب صار القمر شمسا إلى أن يغيب في الأنوار عن جميع الأغيار على نعت قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين انه كان من دعائه : ((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، واجعل لي نوراً)) وزاد بعضهم: ((وفي لساني نوراً)) وذكر: ((وعصبي ولحمي، ودمي وشعري، وبشري))، وفي رواية لهم- أي البخاري و مسلم – : ((واجعل في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً))…فإذا قوي شهود المريد الكركري في منزلة الأنوار تصير فعلا خلوته جلوة، وليله نهار، لأنه على المحجة البيضاء سائر ليلها كنهارها، أنذاك ينفتح له باب الأسرار ويصير الباطن عنده ظاهرا كما وصف بالضبط الشيخ الجيلاني قدس سره، وكل من دخل الطريقة الكركرية إلا ذاق هذا الكلام وصار على هذا النهج
ويقول في نفس الكتاب ص 277: ( اني أرى الأكثر منكم محجوبين !يدَّعون الإسلام وماعندهم من حقيقته شئ ! ويحكم! إسم الإسلام عليكم فحسب لاينفعكم ! تعملون بشرائطه ظاهراً لا باطناً، لايساوي عملكم شيئاً، ليلة القدر لها علامة عند الصالحين من عباد الله عزوجل، منهم من يكشف عن أبصارهم فيرون نور الألوية التي بأيدي الملائكة ونور وجوههم، ونور أبواب السموات، ونور وجه الحق عزوجل..) ففي هذا الكلام يثبت إمكانية شهود نور الربوبية لمن رفع الله عن قلبه الغطاء وكشف له الحجاب عن عين بصيرته
وبالجملة فكلامه عن النور وثمرته في السلوك إلى الله كثير تجد ذلك في كتابه ( سر الأسرار ومظهر الأنوار فيما يحتاج إليه الأبرار) وكذا في قصائده…وكل ذلك يؤكد أن تلك القصة التي يستدل بها المنكرون ويروونها عنه رحمه الله لا يستفاد منها بطلان الانوار و إنما يستفاد منها لزوم عرض المشاهدات على شريعة المختار، بل إن في رواية ابن مفلح و الشاطبي ما يؤكد عدم ظهور الشيطان له بصفة النور وانما بصفة السحابة السوداء، ومما يزيد من تأكيد صحة هذه الرواية لا التي قبلها أننا نعلم بالضرورة مما لا يخالف الواقع ان السحابة الممطرة تكون سوداء لما تحمله في داخلها من أمطار وهذه هي الحالة التي ظهر له فيها ابليس ليوهمه بانه سحابة سوداء ممطرة ليزيل عنه العطش ويتحيل عليه بالحيلة التي ذكرها له، فهو كان يبحث عن الماء
ومما يزيدنا تأكيدا لصحة رواية ابن مفلح والشاطبي كونهما قريبي العهد بالإمام سيدي عبد القادر الجيلاني الذي ولد سنة 470هـ وتوفي سنة 570هـ ، فلقد توفي الإمام الشاطبي سنة 790هـ ، وتوفي الإمام ابن مفلح المقدسي سنة 763هـ ، اما ابن رجب الحنبلي الذي ذكر كلمة النور في روايته فتوفي سنة 1089 هـ، ولك أن تحكم بنفسك هل الأولى تقديم رواية الأقرب بالعهد أم الذي بعُد عهده عن الواقعة، ولقد سبق لي ان رأيت نفس الرواية التي عند ابن مفلح في كتاب مدارج السالكين لابن القيم لكنني نسيتها لطول العهد
ومن العجيب أن سيدي الجيلاني رضي الله عنه لم يحكم على الواقعة بانها من مكائد الشيطان عندما قال له : انا ربك ؟ بل اراد التأكد : فقال : انت الله الذي لا اله الا هو ؟ وعندما اعاد عليه الكرة بقوله : انا ربك وزاد عليها بقد احللت لك الحرام…هنا توقف سيدي الجيلاني قدس سره وعرف تلك الخديعة التي لا تنطلي على صغار الأولياء فضلا عمن هو بمكانة الجيلاني رحمه الله، وهذا ما تدل عليه الحكاية لو كان في المنكر انصاف يقوده الى قول الحق، أو تقوى تحجزه عن الفجور، ولكن كما قال أبي بكر الواسطي رحمه الله : ( ابتلينا بزمان ليس فيه آداب الإسلام ، ولا أخلاق الجاهلية ، ولا أحلام ذو المروءة)
الوجه الثالث : أن المريد عليه أن يكون واقفا عند كتاب الله تعالى و عاملا بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ان يعدل عن الأيات و الأحاديث ويتمسك بأخبار الصالحين فهذا علامة طمس البصيرة إذ كيف بمن يدعي الإتباع أن يسمع قول الله تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) البقرة الآية 257… وقوله تعالى : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) الأنعام الآية 122… و يسمع ما جاء عن عبد الله بن المسور قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) قالوا : يا رسول الله ، ما هذا الشرح؟ قال : ” نور يقذف به في القلب ” قالوا : يا رسول الله ، فهل لذلك من أمارة ؟ قال ” نعم ” قالوا : وما هي؟ قال : ” الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الموت ) رواه ابن جرير وابن ابي حاتم وعبد الرزاق… كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا قام من الليلِ يتهجَّد قال : ( اللهم لك الحمدُ، أنت نورُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، ولك الحمدُ…)رواه البخاري..
أليس هذه الآيات و الأحاديث تدل على أن كل ذرة في الوجود إلا وهي قائمة بنور المعبود، ولكن واحسرتاه أيها العبد المفقود أين ضيعت الشهود ؟ أم تراك فضلت الحدود على نور الودود ؟ والذي يسمع كل هذا هل يجد في قلبه ذرة شك في النور، إنما العبد الصادق إذا سمع ذلك عليه أن يفتش في قلبه هل يجد فيه نور، فإن لم يجد فليبحث له عن نور، وليس أن يقابل الآيات بالتأويل وصرفها عن معناها الحقيقي لعدم وجوده لحقائقها في قلبه، فالنور الذي يقذف في القلوب يشاهده العباد بعين قلوبهم فان قوي ظهرت اثاره على الجوارح حتى يصبح يرى بصيرته ببصره فيصبح يعاين الامور كأنه يراها…فيشهد هنا في دار التكليف قبل حلول رمسه أنوار لا إله إلا الله في قلبه وكيف تتفاوت فيما بين السالكين على حسب قربهم وصدقهم وصفائهم، حتى منهم : من أنوار هذه الكلمة في قلبه كالشمس
ومنهم : من أنوار هذه الكلمة في قلبه كالكوكب الدري
ومنهم : من أنوار هذه الكلمة في قلبه كالنجم الساطع
ومنهم : من أنوار هذه الكلمة في قلبه كالسراج…وهكذا تتوارد البوارق واللوامع على القلوب وتختلف من سالك إلى أخر حسب الأحوال ولا ينكرها إلا جاحد، وبهذه الاشارات و العلامات جاءت الشرائع وكتاب الله بين أيدينا لو تدبره المتدبرون،
ومن العجيب أنك تسمع لسان الحاسدين والحاقدين يقولون نحن نؤمن بالنور، ولكن ليس هو النور الذي تشاهدونه في طريقتكم..!!! فإذا سألتهم : ما دليلكم على ذلك؟ فلا تجد لهم دليلا إلا الظنون التي لا تغني عن الحق شيئا..أما نحن فنقول : دليلنا على ذلك أن هذا النور يتمثل في قلوبنا على وفق اشارات ربنا وكما جاء في السنة، ومن كان يظن في نفسه البحث عن الحقيقة ما عليه إلا التجريب ويحكم بنفسه على نفسه، حتى يعلم أن هذا النور لا يقود إلى مخالفة الشريعة، بل هو – أي النور -أغير منا عليها و أحرص منا عليها، من هتك حرمة من حرماتها احتجب عنه وعاقبه بالإبعاد.
و إليك بعض الإشارات القرآنية والنبوية التي جعلها الحق منهجا للوصول إليه ومن حاد عنها ليس له من السلوك الا اسمه
منها قوله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ) النور الآية 35…فانظر رعاك الله كيف مثل لك نوره وجعلك لك خمس إشارات لعلك تهتدي إليها فتعرفه تعالى، فإنه ما خلقك إلا لمعرفته كما قال حبر الأمة عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، وهذه الإشارات هي المشكاة و المصباح و الزجاجة و الكوكب الدري ثم الشجرة المباركة…فإن أنت وجدت صاحب الشجرة الثابتة المتصلة سندا شيخا عن شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذ بيدك عندئذ لذوق معاني القرآن حتى تتذوق المشكاة و المصباح كما في حديث ” القلوب أربعة ” الذي سبق ذكره أعلاه…ولا يزال الشيخ يجلي مرآة قلبك حتى تصل إلى ذوق الكوكب الدري أو القمر البدري إلى أن يصير وجهك الحقيقي الذي هو القلب مثل الشمس…وبعد ذلك لا تسل عن ما ستلقاه من قرة عين في أسرار المعرفة بالله تعالى، وتأمل بعين عقلك ألا ترى أن هذه الإشارات هي نفسها التي ذكرها الجيلاني قدس يره في كلامه أعلاه، ووالله الذي لا إله إلا هو هذا نفس المشرب الذي يسير عليه الفقير في الطريقة على يد الشيخ سيدي محمد فوزي الكركري قدس سره…ولكن أين العطشى؟ أين المحتاجون لفضل الله تعالى؟ أم احتجبوا بكان أبي وجدي، وكان شيخي وطريقتي
ثم إن هذه الإشارات التمثيلية التشبيهية للنور التي يشاهدها السالكون هي وراثة نبوية من المنزل الإبراهيمي كما قال تعالى : (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (78) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) الأنعام الآيات 75-79
فهذه الآية من أصول السلوك القلبي إلى معرفة الله تعالى، وقد احتوت على عدة محاور
أن العوالم ثلاثة : ملك و ملكوت و جبروت، فعالم الملك هو عالم الخلق، وعالم الملكوت هو عالم الأنوار الصفاتية، و عالم الجبروت هو عالم الأسرار الذاتية، وسيدنا إبراهيم عليه السلام شاهد الأنوار الصفاتية الملكوتية المتنزلة في عالم المثال في الكوكب و القمر والشمس، ولم يكن يقصد بخطابه الكواكب الملكية الحسية كما يظن ذلك البعض، إذ كيف يُعقل أن يُكسر الأصنام في النهار لإزالة الشرك، ويتوجه عليه السلام ليلا لينسب للكواكب الربوبية، فحاشاه من ذلك حاشاه، كيف يكون ذلك وهو يعلم أنها فناءا في فناء، ولقد ذهب جمهرة من اهل السنة إلى أن الأنبياء عليهم السلام معصومون قبل بعثتهم وبعدها، جعلنا الله و إياكم من الذين يعرفون حقوق الأنبياء و يعظمونهم
أن سيدنا إبراهيم عليه السلام عرض مشاهداته معرض التعليم لغيره، من أجل اتباع سنته وطريقته الحنفية، فهو لما رآى مثل نور الحق تعالى المتمثل في الكواكب – وهو نفس الرمز الوارد في سورة النور- ، أراد أن يعلمنا بأن النور صفة إلهية أزلية لا تظهر في مرآة القلوب إلا على وفق الأمثال القرآنية، ويعلمنا بأن مثل النور المشاهد المقيد ليس هو النور المجرد كما أنه ليس غيره كما ترى، ولذلك قال أهل السنة أن الصفات هي عين الذات وغيرها، وشاهدنا على ذلك أن الخليل عليه السلام نسب الربوبية للمثل ونفاها عنه، فكأنه يقول لنا : هو وليس هو…إذ ( ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ) النحل الآية 60…فالمقام مقام ” أن تعبد الله كأنك تراه ” رواه البخاري …و تأمل كيف جاء بكاف التشبيه، ثم ارتقى بنا مشهدا أخر من مشاهد أهل القرب، وفتح لنا الباب للعروج إلى رحاب التوحيد الخالص الذي لا تشوبه شائبة، وذلك عندما علمنا كيف نجمع القلب على الذي فطر السموات و الأرض، وليس على غيره مهما على شأنه، إذ أن المثل النوري إشارة في قلب العارف ليصل بها إلى المعروف وليست غاية إنما الغاية هو الله تعالى وحده اما الاشارات النورية فهي الطريق الموصل الى الحضرة فحسب
وهذه المنزلة الإبراهيمية تعلمنا كيفية السلوك على نعت أية النور بحيث نعود بأمثال النور التشبيهية الخمسة إلى نور السموات و الأرض، ونعود بنور السموات و الأرض إلى الإسم الجامع ( الله ) هنالك فقط يحظى العبد بأسرار المعرفة التي هي عجز في عجز، فالعارف هو الذي عجز عن الإدراك، إذ أنه لا يعرف الله على التحقيق إلا الله
واعلم أن سيدنا إبراهيم عليه السلام ظهرت له هذه الأمثال النورية على حسب قدره العظيم، والولي تظهر له بحكم صدق اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم بحسب ما تسمحه له العناية في مقام الولاية، وهنا تتفاوت مراتب الأولياء فيما بينهم حسب اختلاف شروق انوار الاتباع على قلوبهم
ولقد روى البيهقي بسنده عن مسروق عن عبد الله قال: يجمع الله الناس يوم القيامة ـ إلى أن قال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره في إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا أضاء قدم قدمه وإذا أطفأ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض مزلة، ويقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الرجل، يرمل رملاً على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخر يد وتعلق يد وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك، بعد أن أراناك، لقد أعطانا ما لم يعط أحد.هـ.
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يعطى كل إنسان منهم ـ منافق أو مؤمن ـ نورا، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله، ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون، فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضوإ نجم في السماء، ثم كذلك)
فإذا علمت أن النجاة يوم القيامة تكون على قدر النور، و أن العطايا تكون على قدره، فابحث لك عن النور، ولا تضيع نفسك بين شبهات الأوهام والشكوك، وبين قيل وقال والركون إلى النفس، فالدنيا مزرعة الأنوار لأنها دار عمل، فلا تجعلها طريقا لإكتساب الظلمة، فتكون من النادمين، ابحث عن مقامك ما دمت من الأحياء، ولا تقل ان ذلك لا يظهر إلا في الأخرة، فتكون من الذين يقولون ما لا يعلمون ففي الحديث المرسل الصحيح أنَّ النبيَّ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم – قال له : ( كيف أصبحتَ يا حارثةُ ؟ ) قال : أصبحتُ مؤمنًا حقًّا, قال ( انظُرْ ما تقولُ, فإنَّ لكلِّ قولٍ حقيقةً ) , قال : يا رسولَ اللهِ, عزفتْ نفسي عن الدنيا, فأسهَرتُ لَيلي, وأظمَأْتُ نهاري, وكأني أنظرُ إلى عرشِ ربي بارزًا, وكأني أنظرُ إلى أهلِ الجنَّةِ في الجنَّةِ كيف يتزاوَرون فيها, وكأني أنظرُ إلى أهل النارِ كيف يتعاوَوْنَ فيها . قال : ( أبصرْتَ فالْزَمْ, عبدٌ نوَّرَ اللهُ الإيمانَ في قلبِه )الراوي : الحارث بن مالك الأنصاري | المحدث : ابن رجب | المصدر : جامع العلوم والحكم،الصفحة أو الرقم: 1/127 | خلاصة حكم المحدث : روي من وجوه مرسلة و متصلة والمرسل أصح
فانظر وفقك الله إلى ما احتواه هذا الحديث من الفوائد، بحيث أنه بين عمل الطريقة وثمرة الحقيقة، فأما عمل الطريقة فعندما ذكر عزوف نفسه عن الدنيا وذكر قيامه وصيامه، وثمرة الحقيقة ذكره لشهوده عرش ربه بارزا وهي علامة على تمكنه من معرفة الله تعالى، ثم استعمل كاف التشبيه الإحسانية وبدأ يصف احوال الجنان والنيران، فشهد له سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم بكمال الإيمان
وبالجملة إن المشاهد النورية التي يصير عليها المريد في الطريقة هي نفسها تلك الوارد ذكرها في الكتاب و السنة، ولكن لما طغى الجهل أصبحت تُنسب لتلبيسات الشيطان و العياذ بالله تعالى، والمريد الصادق لا يلتفت إلى كلام أهل البعاد، و إنما يجمع همته على ما جاء به الوحي و يجاهد نفسه على السير وفقها حتى يكون من الفائزين
وللإستئناس بعد أن ذكرنا كلام سيد الناس صلى الله عليه وسلم تأمل ما وصلنا عن الشيخ المجمع على جلالة قدره العام والخاص، والمعتقد والمنتقد، حتى أن الشيخ ابن القيم رحمه الله في المدارج استشهد بكلامه، ألا وهو العارف القدوة سيدي أبا مدين الغوث الإشبيلي رضي الله عنه، يقول
صحّ عندي الخبر وسرى في سرى أنّ عينَ النظر عين عينِ الفكرِ
أغمض طرفَك ترى وتلوح أسرارُك
وافنَ عن الورى تبدُ لك أخبارُك
وبصَقل المرا يا نزول أغيارُك
وتلوح بك أسرار من عيونِك تسري والتفت إن ظهر في سماك الدري
ألفُلك فيكَ يدور ويُضيءُ ويلمَع
والشموس والبُدور فيك تغيب وتطلع
فاقرأ معنى السطور التي فيك أجمَع
لا تغادر سطراً من سطورِكَ وادر أش هو معنى القمر الذي فيك يسري
بحرُ فكري عميق ريحُ مسكي يعبق
من دخلهُ حقيق لاش يخاف أن يغرَق
يدري هذا الطريق من كان عبداً للحق
إن ذلك البحر لا يقاسُ ببحري بحرُ فكري درر والزهرُ في بري
فانتَبَهت للخطاب وسمِعتُ منّي
كلّي عن كلي غاب وأنا عني مفني
وارتفع لي الحجاب وشهِدتُ أنّي
ما بقى لي آثار غبتُ عن أثري لم أجِد من حضر في الحقيقة غير
ساداتي وافهموا المراد من قولي
هذا لا نكتُمُه عن أحد من أهلي
سرّي لا يفهَمُه إلّا من كان مثلي
سلكُ عقدي انتَشَر بدا لي دُري نظّمواهُ يا جوار إنَّني في سكري
الوجه الرابع : أن الذي يقول بأن النور المشهود في الطريقة الكركرية هو من تلبيسات الشيطان، كلامه مردود عليه وسيحاسب عليه أمام الله تعالى وذلك للأسباب التالية
أن المريد في الطريقة الكركرية من المكثرين لذكر الله تعالى في الليل والنهار، فكيف يقربه شيطان، ام كيف يتلبس به وهو قد تمسك بحبل الله الممدود، ووصية رب العالمين لأحبابه، والذي جاء به القرآن أن الذي ابتعد عن ذكر الله تعالى هو من تتسلط عليه السفليات وتكتنفه الشياطين لا العكس وهذا صريح قوله تعالى : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ) الزخرف الآية 36…فذكر الله و ابليس لا يجتمعان لأنه يفر عند ذكر الله تعالى فقد جاء عن أبو هريرة قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين ، فإذا قضي التأذين أقبل حتى إذا ثوب بها أدبر ، حتى إذا قضي التثويب أقبل يخطر بين المرء ونفسه يقول له : اذكر كذا اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر من قبل حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى ” رواه مسلم و البخاري…والفقير الكركري لا يبدأ ذكر الله تعالى إلا وهو على طهارة التي هي سلاح المؤمن و يبدأ ذكره مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم وهذا مما يرد كيد الشيطان فقد قال تعالى : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) النحل الآية 98-99… وروى مالك في الموطأ عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب مكان كل عقدة : عليك ليل طويل فارقد ، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة ، فإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقدة ، وأصبح نشيطا طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد : ( وفي هذا الحديث دليل على أن ذكر الله يطرد به الشيطان ، وكذلك الوضوء والصلاة ، ويحتمل أن يكون الذكر والوضوء والصلاة لما فيهما ( من ) معنى الذكر ، فخص بهذا الفضل في طرد الشيطان ، ويحتمل أن يكون كذلك سائر أعمال البر ، والله أعلم) ص 46 ج 19، مكتبة ابن تيمية
أن صيغ الذكر في الطريقة ولله الحمد كلها شرعية ليس فيها كلمة غير مفهومة ولا تحريف فيها حتى نقول أن الشيطان يمكن أن يدخل منها على الفقير، بل على العكس من ذلك تماما، بحيث تجد فيها أذكار تقطع دابر الشيطان وتبدد الظلمات وتزيد في القلب نورا وسرورا، وبيان ذلك ما يلي
على المريد الكركري أن يكون حريصا على قيام الثلث الأخير من الليل وقد جاءت في ذلك اخبار نبوية تدعوا إلى اغتنام ذلك الوقت الشريف ، وعلى المريد أن يحييه بالصلاة و ذكر الله تعالى حسب ما يراه له شيخه مناسبا لحاله، وهنا تبرز اهمية الصحبة ومرتبة المشيخة والدلالة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله أصحابه سؤالا واحدا فيجيب كل واحد بما يناسبه فيسأل: أي الأعمال أفضل ؟ فيقول لشخص الصلاة لوقتها ويقول للأخر لا تغضب وهكذا وهذا موجود في دواوين السنة، وبحكم الوراثة المحمدية هكذا يتعامل الشيخ مع الفقراء منهم من يأذن له بالاستغفار في وقت الثلث، ومنهم من يأمره بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يأمره بذكر الكلمة المشرفة لا اله الا الله، ومنهم يأمره بذكر الاسم المفرد ” الله ” لقوله تعالى : ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا) المزمل الآية 8..وقوله تعالى : (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ) الانسان الآية 25…وهكذا يأمر كل واحد بما ينفعه أكثر ويؤثر فيه أكثر ولا يأمر إلا بالصيغ الشرعية التي جاءت في السنة
ثم بعد صلاة الصبح و صلاة المغرب عليه أن يقوم بورده لاستحباب الذكر في ذلك الوقت كما قال تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال )النور الآية 36…والورد يحتوي على الإستغفار مئة مرة و الصلاة على رسول الله مئة مرة و لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ثم يختم بالحمد والشكر لله مئة مرة
فالاستغفار فيه فضائل كثيرة من تمسك به كان في كفاية الله وحرزه وهو سبب هلاك الشيطان فقد ذكر ابن القيم في كتابه الجواب الكافي قال : ( قال إبليس : أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله ) و بالاستغفار يَصفُو القلب وينقى، ويزيد نورا كما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرَجَه الترمذي وقال: حسن صحيح وصحَّحه الألباني: عن أبي هريرة – رضِي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ المؤمن إذا أذنَبَ كانت نكتة سوداء في قَلبِه، فإنْ تاب ونزَع واستَغفَر صقل قلبه، وإنْ زاد زادتْ حتى يعلو قلبه ذاك الران الذي ذكر الله – عزَّ وجلَّ – في القُرآن: {بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: 14).»…وصيغته في الطريقة : استغفر الله في الورد و أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في غيره وهما صيغتان ورد بهما الشرع
والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المنجية و سبب قبول الأعمال و حصول الشفاعة وبها تقضى الحوائج و الغموم و سبب لصلاة الحق على من صلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وبالجملة المصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكفى همه كله وفي كل ذلك أحاديث كثيرة فيا ترى: من صلى عليه ربه صلاة رحمة و كفاه همه وغمه هل يكون للشيطان عليه سبيل؟ الجواب حاشا وكلا…وصيغ الصلاة إما بالصلاة الابراهيمية أو الأمية وكلاهما جاءت به السنة ولولا الاطالة لذكرت الاحاديث في ذلك
أما ذكر الكلمة الشريفة بالصيغة المذكورة اعلاه فهي الحصن الحصين من الشيطان الرجيم ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك.).
أما ذكر الإسم المفرد ( الله ) في كل حركة وسكون وعلى جميع الحالات هو من أشد الأذكار حرقا لظلمة النفس و التي هي أشد من ابليس…فمن أذاب الشديد هان عليه الضعيف
و من الأوراد كذلك في الطريقة لزوم ختم القرآن في كل شهر مرة بمعنى أن الفقير يقرأ سورة البقرة كل شهر مرة وقد جاء في فضائل هذه السورة فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ( اقرأوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَة) رواه مسلم…والبطلة هم السحرة وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة) رواه مسلم
ومن الأوراد كذلك قراءة أية الكرسي دبر كل صلاة وعند النوم وقد بيّن لنا إبليس -لعنه الله- من باب: “وشهد شاهدٌ من أهلها” مدى فاعليّة هذه الآية في الحماية والتحصين والوقاية، فقد قال لأبي هريرة رضي الله عنه في القصّة المشهورة: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسى، لن يزال معك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وأقرّ النبي صلى الله عليه وسلم بصحّة ذلك وقال: (صدَقَك وهو كذوب) رواه البخاري… إذن : فالقارئ لآية الكرسي محفوظٌ بحفظ الله، يوكّل الله له ملكاً يقوم بحراستِه، ولا يستطيع الشيطان أن يقتربَ منه مهما كان عتوّ الشيطان وجبروتِه، وإذا كانت السحرة تستعين بالجن والشياطين لأذيّة بني آدم فلا سلطان لهم على من يقرأ هذه الآية المباركة
وكذلك لا يجتمع الفقراء في مجلس ذكر حتى يقوموا بترقية المجلس بأية الكرسي و المعوذتين و سورة الإخلاص والفاتحة وهكذا ينبغي ان يفعل المريد عند النوم ويحرص ان ينام على طهارة ولقد سمعت شيخنا رضي الله عنه كثيرا ما يقول في شأن الطهارة : عندما يدخل علي الفقير بلا وضوء كأنه يطعنني بسكين…ودائما ما يوصي بالحفاظ عليها ويقول لنا : حتى ان ادركتم المنية تكونون على وضوء
فهذه هي الأشياء التي يعلمها الشيخ رضي الله عنه لتلامذته و يحثهم على المواظبة عليها و الحرص عليها ويوبخ كل من تهاون فيها وكل الفقراء يعرفون هذا…كما انه يوصي باذكار الصباح والمساء والاذكار المتعلقة بالخروج من المنزل و الدخول اليه وغيرها من الاذكار المسنونة التي لا يقرب ذاكرها شيطان فمن قام بذلك كله كان له غنيمته وثمرته ومن تركه فهو المقصر
ومن الأوراد التي يواظب عليها الفقراء الذين لهم قدم صدق في الطريقة عبادة الصوم فمنهم من يصوم الإثنين و الخميس و أيام البيض، ومنهم من يصوم الشهور المتتالية دون انقطاع، ومنهم من يصوم الوصال، وغير ذلك حسب أحوالهم حفظهم الله ورعاهم ومن المعلوم أن الصوم يضيق مجاري الدم وبالتالي يضيق على الشيطان مسالكه، لذلك جاء عن أحمد والنسائي وابن ماجة عن عثمان بن أبي العاص أنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( الصيام جنة، كجنة أحدكم من القتال ) وفي لفظ : ( الصيام جنة من النار، كجنة أحدكم من القتال )
فبالله عليكم هل نصدق ضمانة رسول الله صلى الله عليه وسلم في من قام بكل ذلك في كونه يكون محفوظا من الشيطان ؟ أم نصدق أصحاب النفوس المريضة الذين يريدون أن يصدوا الناس عن ذكر الله؟ حتى تصبح فعلا ملكا لإبليس وفي قبضته ولا حول ولا قوة إلا بالله
وبالله عليكم هل من دخل تحت سقف هذه الضمانة المحمدية سيظهر له في مشاهداته و منازلاته و أسراره شيطان يضله ؟ حاشا وكلا فنحن نؤمن بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم…فإن لم نطرد الشيطان بتلك الأذكار بماذا سنطرده؟ وفي ماذا سنتمسك ؟ ومن ينجينا منه ؟ ولكن أقول : ليس للعبد إلا الله و رسوله صلى الله عليه وسلم وكل ما دون ذلك سراب في سراب لا يعبأ بقوله ولا باتهاماته ولا بكلامه، هكذا ينبغي أن يكون شأن المؤمن، أن ينظر إلى الحق لا إلى غيره
ومن لم يستطع لكل هذا عليه ان يبقى في حمى من يقوم بذلك عسى تشمله بركة ( لا يشقى بهم جليسهم )، أو عساه ان تهب عليه نفحة من نفحات الرحمن فتأخذه من الكسل إلى العمل، لا أن يفر منهم ويقابلهم بالعداء ويرميهم بالبهتان، بسبب عدم قدرة نفسه على تحمل جلال الطريقة ( الأعمال وكل ما يميت النفس ) وبسبب رغبته في حصول جمال الطريقة ( المشاهدات و الأسرار) وهو لا يسلك مسالكها.
لذلك أقول : المرء الذي له ايمان بما جاءت به الشرائع لا ينبغي له ان يرد كلام الشارع وضماناته لمن تبعه ويثق بكلام غيره من أهل الملل و الالحاد…ويقيس الأحوال الشيطانية على الاحوال الربانية فمن هذا حاله فهو عبد ظالم لنفسه يُخشى عليه سوء الخاتمة و العياذ بالله تعالى…و أيضا من حصن نفسه بالأذكار النبوية حتى و إن ظهر له ما هو سفلي شيطاني سيكون في مأمن عنه، فلا يؤثر فيه و لا يخرجه عن جادة الصواب، ولا عن حقيقة الإتباع، بل سيعرفه و يستعيذ بالله منه وذلك لأنه محفوظ بحفظ الله له تحقيقا لوعد الله تعالى فيمن قام بالأذكار المذكورة أعلاه
الشبهة الثانية
يقولون أن هذه الأنوار التي يشاهدها الفقير في الطريقة الكركرية ما هي إلا فتح للعين الثالثة عن طريق الجن أو الإسقاط النجمي وغير ذلك من الترهات التي يريدون أن يبردوا بها نار الظلمة المتقدة في نفوسهم، والذي ندين الله به أن تلك الاشياء لا تقرب إلى الله زلفى، وضرها أكثر من نفعها، وهي من العلوم السفلية التي تلقاها بعضهم، من أجل تحصيل الطاقة والعلاج، ثم أضاف عليها نكهة اسلامية، والجواب على هذه الشبهة يكون من عدة وجوه
الوجه الأول : أن الذي يبطل هذه الشبهة هو أن الفقير يسير الى الله على منهاج الشريعة وقد بينا ذلك في الأذكار التي يقوم بها فأي جن او شيطان سيتسلط عليه
الوجه الثاني : أن النور الذي يشاهده الفقراء يزيد وينقص بالعمل الصالح لأنه نور ايماني و الايمان يزيد وينقص بالعمل الصالح، ولذلك ترى الفقير عندما يتهاون في الأوراد أو يتركها كليا، و يتهاون في الصلوات و لا يراقب لسانه ولا حاله ينطفئ عندئذ من قلبه هذا النور ويرجع قلبه ظلمة كما كان من قبل بل أشد، فلو كان هذا النور نورا سفليا لما زال و نقص بالمعصية، وانما سيزيد وينموا بها ولكن الامر بخلاف ذلك
الوجه الثالث : أن هذا النور يكتب في قلوب الفقراء اسماء الله الحسنى و آيات الذكر الحكيم ويتمظهر في القلب على وفق الشريعة يبدأ بالقلب ثم العين و السمع وهكذا كما جاء في دعاء الذهاب الى المسجد ، و به يتحقق العبد من حديث الولي الذي رواه البخاري ( كنت سمعه وبصره…) فلا ذوق لهذا الحديث من غير نور، وهذا النور لا يدعوا الى مخالفة امر شرعي بل يزيدك تعلقا بالشرع لكونه يفتح امامك الباب لفهم اسرار الشريعة و يعلمك كيف تتذوق العبادة
الوجه الرابع : لو كان هذا النور كما تصفون فلماذا يشاهد أغلب الفقراء الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام واليقظة بالصورة الخلقية فإن الشيطان لا يتمثل به في كل المواطن، ولقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رأني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي ). وفي المتفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتخيل بي)، وما حصلت لهم تلك المشاهدات إلا ببركة المشاهدة الروحية النورية لحضرته الشريفة والتي هي حاصلة لكل من اخذ الورد على يد الشيخ رضي الله عنه…أليس هذا من علامة صحة النور وصدقه، أم أنكم تقدمون الأهواء على ما جاء في صريح الأخبار، و إن تعجب فاعجب ممن يقول: هذه الرؤى حصلت للمريدين بسبب صدقهم، وليس ببركة ارشاد الشيخ…فنقول : هذا عين الجحود لأن المريدين لم يكن لهم شيء من هذه المشاهد من قبل حتى صحبوا الشيخ رضي الله عنه، فلو كان من صدقهم فلماذا لم يروه قبل أخذهم للعهد؟ وقد كانوا أحرص الناس على تحصيل الشهود ، ولكن بعد البيعة بلغوا المنى و زال عن قلبهم العمى و ارتحل عنهم العنا، كل ذلك ببركة الصحبة، و ببركة الإذن في الإرشاد، وببركة صحة الاتصال بالسند، لأن الشيخ المربي له وراثة نبوية من باب ( والله المعطي و أنا القاسم ) رواه البخاري…حيث يتدفق العطاء الإلهي من الحضرة القدسية على قلب الشيخ، ومن قلب الشيخ على قلب المريد
الوجه الخامس : لو كان هذا الامر شيطاني فلماذا ينكشف لبعض الفقراء أمور غيبية مستقبلية تتعلق بهم أو بمن له علاقة بهم وهي لم تحدث بعد؟ أليس أن الشيطان لا قدرة له على معرفة المستقبل، لأنه لا يعرف الا ما وقع في الماضي لذلك الكاهن و الساحر لا يخبر الا بالوقائع الماضية، أما المستقبلية فلا سبيل له اليها، أما الكشف الحاصل في الطريقة ببركة النور فهو يظهر العجائب مما لا يكون إلا لأولياء الله الصالحين و لنا في ذلك شواهد وحكايات
الوجه السادس : أن النور في العين الثالثة و الاسقاط النجمي هو معنوي لذلك تراهم يستعملون لفظة تخيل النور أما النور المحمدي فهو نور يُرى بالقلب كما تُرى المخلوقات، والفرق بين الحالتين واضح
الوجه السابع : النور في الطريقة إذا شُوهد ترك في القلب حلاوة و شعر المريد بالسكينة والنشاط و يزال عنه الكسل، وليس كما يدعي من فتح العين الثالثة انه يشعر بخمول في جسمه وكسل عند فتحه لتلك العين، كما أن هذا النور يزداد فيه العبد فهما وكمال عقل ، حتى يصبح يفهم عن الله تعالى في كلامه و عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته ما لم يكن يفهمه من قبل
الوجه الثامن : أن الحق لا يُرد لكونه يتشابه مع الباطل في الصورة فان هذا من الجهل البين، فالميزان هو الشريعة ما وافقها نأخذه وان وجدنا مثله عند الأمم الاخرى وما لم يوافقها نتركه ولا حاجة لنا به، والذي جاءت به السنة المشرفة ان بين عيني كل بني آدم وبيصا من نور و ليس عينا ثالثة فقد روى الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل رجل منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال يا رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال أي رب من هذا ؟ فقال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود فقال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب زده من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم عليه السلام جاءه ملك الموت فقال أولم يبق من عمري أربعون سنة قال أولم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته ) وهذا هو نور الفطرة التي يخلق الله العباد عليها وهي الاسلام، ولكن الأبوين يطمسانها بحكم التربية، فإذا التقى العبد بشيخ التربية المأذون من قبل المصطفى صلى الله عليه وسلم واخذ عنه أشرق في قلبه نورا بحكم حديث : ( اللهم اجعل في قلبي نورا ) ثم يترقى الى مرحلة البصر بحكم ( اللهم اجعل في بصري نورا ) فهذا هو السير لا غيره فالحديث لم يقل واجعل بين عيني نورا…والفرق واضح لولا الجحود والعناد
الوجه التاسع : ان الذي يفتح العين الثالثة كما يزعمون يعيش عيشة الجحيم، و يتخبط في المشاكل و ينطوي على نفسه، وهذا لا يحدث مع النور المحمدي، فالذي يشاهده يعيش في سعادة وفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاذا غاب عنه انقبض آنذاك و اقلقه الشوق، أما الإبتلاءات التي يبتلي الله بها من يشاء من عباده الصالحين السالكين طريقه بالفقر و المرض وغير ذلك فهي ثمن المحبة والقرب، وهي شأن اخر رباني ولا تدل على غير ذلك فالحديث واضح في هذا المجال ( اشد الناس بلاء الانبياء ثم الصالحون…) ولكن النفوس تريد الله تعالى وتريد الدنيا وهما حبان لا يجتمعان فان نقص للعبد شيء من دنياه اعرض عن الله وانقلب على عاقبيه نسال الله السلامة…ولكن الذي يريد الله تعالى عليه ان يضع في باله دائما أنه ينبغي عليه ان يبيع نفسه لله فلا يبقى مع حظوظ نفسه وانما يبقى مع ربه في حال اراد ان يقيمه فيه وهذه هي سر العبودية الخالصة لا الادعاءات الكاذبة التي تذوب عند اول امتحان، وليعلم العبد أنه قد أتى أبو ذر النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : إني أحبكم أهل البيت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : الله ؟ قال : الله . قال : ” فأعد للفقر تجفافاً، فإن الفقر أسرع إلى من يحبنا من السيل من أعلى الأكمة إلى أسفلها ” . ( رواه الحاكم 4 / 331 ، وصححه هو والذهبي والألباني )
الوجه العاشر : أن الذي يرد على أهل الله تعالى عليه ان يكون مثلهم وله مشاهدهم وليس ان ينزل مذاهب اهل الكفر على الموحدين، فذلك سوء ادب مع الله و احبابه، فليحذر من هذا حاله من مكر الله تعالى، فلربما دخل فيمن يعادي اولياء الله تعالى فيمقته الله ويحاربه وحديث الولي مشهور معروف، يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه في الفتح الرباني : ( احذروا من إذاية المؤمن فإنها سم في جسد من يؤذيه، وسبب لفقره وعقوبته، يا جاهل بالله تعالى وبخواصه : لا تذق طعم غيبتهم فإنها سم قاتل، إياك ثم إياك ثم إياك ثم إياك، أن تتعرض لهم بسوء فإن لهم من يغار عليهم )
الوجه الحادي عشر : أن النور في الطريقة الكركرية يشاهده المريد اينما تولى فمنهم من يراه في الشيء ومنهم من يراه قبل الشيء و منهم من يراه عند الشيء يقول سيدي عبد القادر الملقب بمول الباشا وهو شيخ سيدي محمد بن قدور الوكيلي الكركري رضي الله عنهما، يقول : ” منهم من يشهد النور في عين الزجاجة الكونية فهو في رسوخ بعد التمكين، ومنهم من يشهده عندها فهو في تمكين قبل الرسوخ، ومنهم من يشهده قبلها فهو في تدلي في رجوع، ومنهم من يشهده بعدها فهو في ترقي في طلوع ) الإشارة الكافية لسيدي عبد القادر مول الباشا ص 118-119….وهذا المشرب لا تسطيعه العين الثالثة ولا غيرها، ولكن يشهدك إياه الشيخ المأذون من قبل الحضرة، ومن لم يكن مأذونا فلا قدرة له على ايصال المريد الى هذا المقام، ففاقد الشيء لا يعطيه، وكفى بذلك علامة على الإذن
الوجه الثاني عشر : إن في الطريقة الكركرية بعض الفقراء الذين سبق لهم أن خاضوا تجربة فتح العين الثالثة…وذلك قبل دخولهم للطريقة، فالذي جرب وخاض وذاق أولى من الذي سمع فقط، فالذي سمع كلامه مردود عليه لأنه يتكلم عن جهل و ظن، أما الذائقون فهم الذين عرفوا الفرق بين العين الثالثة وبين النور المحمدي عندما شاهدوه عند البيعة و التلقين من حضرة الشيخ سيدي محمد فوزي الكركري رضي الله عنه، وبين أيدينا الآن شهادة لفقيرين تكلموا فيها عن تجربتهم تلك، وهي من باب وشهد شاهد من أهلها، ولقد وضحوا المعاني حول هذه الشبهة الواهية ، التي يريدون بها اطفاء نور القرب
وخلاصة الكلام : أن الحق واضح وضوح الشمس لا يحتاج إلى دليل، ولكن لما كثر الجهل وجب التبيين، واظهار المحجة بالدليل و البرهان…والله ورسوله صلى الله عليه وسلم اعلم
المهدي بعداش يحكي عن تجربته في مدرسة الطريق الرابع (شاكرا اجنا العين الثالثة) وتجربته عن النور المحمدي في الطريقة الكركرية
رد الكركرية و العين الثالثة بالعربية و الفرنسية
مشاهدات الرسول صلى الله عليه وسلم في اليقظة