بسم الله الرحمن الرحيم
مجالس الشيخ المربي المحقق سيدي محمد فوزي الكركري رضي الله عنه
مجلس الجمعة : 15 صفر 1436 هـ الموافق ل 19 دجنبر 2014م
مقام النبوة : مجلى الخلود
المجلس الخامس
اعلم كحل الحق بصيرتك بإثمد مشكاة النبوة أن حضرة النبوة هي مجلى العصمة و البيعة و الخلود ونحن إذ نتكلم عليها فإننا نتكلم عليها من باب الولاية يعني من خلال ولاية النبي وذلك بحكم تنزل رقائق قلبية نورانية من قلب النبي على قلب الولي عبر سند متصل يصل هذا بذاك….أما حضرة النبوة فلا قدرة لغير النبي في الكلام عليها
ومن المعلوم ضرورة أن كل رسول نبي وكل نبي ولي والعكس باطل إذ أن النبي أو الرسول قبل نزول الوحي عليه كان وليا فولايته سبقت نبوته فتذكر هذا الأصل دائما و أنت تقرأ كلامنا…ثم ضع في حسبانك أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم تارة يبرز من دائرة رسالته وتارة أخرى من دائرة نبوته و اخرى من دائرة ولايته ولكل دائرة نورها الذي تعرف به ولا يتذوق روح الكلام ومن أين برز إلا من انفتحت بصيرته وصفت سريرته حتى تجلت فيها أنوار المحبة…ولما كان الأمر كذلك كان السبيل إلى الوصول الى ما هنالك يتوقف على خُلوص المتابعة بالفناء في أنوار المتبوع صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا…ولا يتأتى ذلك إلا بسلوك الطريق على يد شيخ قد عرف المسالك ومن بحر النور المحمدي اغترف بدائع الحقائق…لتكون لوصية ربك متبعا كما في قوله عز من قائل : { واتبع سبيل من أناب إلي } لقمان الأية 15 وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } التوبة الاية 119
ثم اعلم أن الإنسان الكامل الذي اصطفاه الحق ورزقه معرفة إلهية على نعت الشهود والعيان بتحقيق معنى أن تعبد الله كأنك تراه…هو الإنسان الآدمي الجناني الذي علمه الحق الأسماء كلها كما قال تعالى : ( وعلّم آدم الأسماء كلّها ) البقرة الاية 31…فاستحق بذلك الخلافة الأسمائية فكان البرزخ بين الحق و الخلق…له وجه نحو الحضرة العلية بحكم روحانيته ووجه نحو الخليقة بحكم بشريته فهو لما عرف الأسماء كلها غاب في المسمى فهو الغائب الحاضر و الفاني الباقي…و إن شئت قلت : له وجه نحو الربوبية بحكم النفخة الروحية ( ونفخت فيه من روحي ) الحجر 29 ( قل الروح من أمر ربي ) الإسراء الأية 85…وله وجه نحو العبودية بحكم القبضة الطينية قال تعالى : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ) سورة ص/ 71…وعن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ : جَاءَ مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ ، وَالْأَبْيَضُ ، وَالْأَسْوَدُ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ ، وَالسَّهْلُ ، وَالْحَزْنُ ، وَالْخَبِيثُ ، وَالطَّيِّبُ ) رواه أبي داود
فالإنسان الكامل هو الذي جمع حقائق ما في الحضرتين الحقية و الخلقية إذ له صورتان ظاهرية وباطنية فمن حيث صورته الظاهرية نجده قد احتوى على كل ما في الكون إذ فيه الطبائع الأربعة التي منها خلق الحق كل شيء : التربة و الهواء والنار و الماء…فهذه المواد الأربعة لا يخرج عنها مخلوق و الإنسان قد جمع ذلك كله كما أشار إلى ذلك سيدنا على رضي الله عنه فيما ينسب إليه حيث قال
وتحسب أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
أما من حيث صورته الباطنية فهو الذي حاز شرف الخُلقة على كنه الصورة الحقية المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم : ( خلق الله آدم على صورته ) أخرجه الشيخان البخاري ومسلم وفي حديث آخر رواه أحمد وغيره قال عليه الصلاة والسلام : ( خلق آدم على صورة الرحمن )…فأتى بالإسم الجامع ( الله ) ووزيره اسم الرحمن إشارة إلى كنه الجمعية التامة التي عليها الصورة الباطنية للإنسان الكامل إذ هذين الإسمين لا يعلوهما في المرتبة إلا الإسم الأعظم المكنون
لذلك كان الإنسان أعظم الكائنات خلقة على الإطلاق لأنه هو المخلوق الوحيد المستحق للخلافة الأسمائية التي هي ليست إلا حقيقة الصورة الباطنية الحقية التي خُلق عليها كما في الحديث فكان بسر
السميع يسمع وبنور البصير يبصر و بسر الكليم يتكلم وبسر المريد كانت له إرادة وبسر القادر كانت له القدرة وهكذا كان الإنسان الكامل هو المظهر الجامع لكل الأسماء
وعندما نقول الصورة الظاهرية لا نعني بذلك الجسد فقط و إنما نقصد الجسد و النفس والقلب و العقل و الروح كذلك لأن كل ذلك مخلوق كغيره من المخلوقات فالروح والعقل وغيرها لا تمثل في طريقتنا إنما هي محطات يمر عليها السالك فهي الطريق الموصل إلى الحق أما الباطن فهو أعلى من هذا والدليل على أن الروح تدخل ضمن النطاق الظاهري هو رؤيتك للنور إذ هي رؤية ظاهرية ولكن من وصل إلى مشاهدة الروح الأمرية فهو على مقربة من الدخول على باب الأسرار الباطنية الجبروتية لأن الباطن هو العلم بأسرار الأسماء التي بها تدرك معنى الصورة الحقية التي خلق آدم عليها من غير حلول ولا إتحاد ولا ممازجة فالصورة الظاهرية للإنسان الكامل تشمل الكثافة الجسدية في عالم الملك و اللطافة الروحية في عالم الملكوت أما الصورة الباطنية فهي الأسرار الجبروتية
وبإعتبار آخر نقول أن الروح من أمر الربوبية فهي من تجليات إسم الرب الذي يورث التجليات الفرقية لذا كانت داخلة تحت الصورة الظاهرية للإنسان الكامل أما الصورة الباطنية له فهي صورة جمع لا فرق لذا جاء الحديث بالإسم الجامع الله…لذلك أمر الحق ملائكته بالسجود لآدم فهو سجود لهذه الصورة الباطنية
ثم اعلم أن الإنسان الكامل هو روح الكون له الأولية وله الاخرية فهو الأول من حيث القبضة النورانية فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ” لمّا خلق الله تعالى آدم عليه السّلام خبّره ببنيه فجعل يرى الأنبياء عليهم السلام وفضائل بعضهم على بعض فرأى نورا ساطعا في أسفلهم فقال: يا ربّ من هذا ؟ قال: هذا ابنك أحمد هو الأوّل وهو الاخر وهو أوّل شافع ” أخرجه البيهقي و ابن عساكر وغيره…فكانت الأولية مرتبطة بمقام نبوته عليه أزكى الصلاة و اتم السلام فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام احمد عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم انه قال كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد فهو الآخر من حيث الخلقة والصورة الكونية الأينية حتى يختم النبوة بالأخرية كما فتحها بالاولية وتعود الدائرة الى النقطة التي انطلقت منها ويظهر فص الخاتم النفيس ففي حديث العرباض بن سارية عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ( إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته ) رواه أحمد، والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد
ثم اعلم أن الحضرة الأقدسية الداخل فيها مفقود فمن أذن له الحق بدخولها لن يجد فيها حتى نفسه فبالأحرى يجد غيره لكن في حضرة الديوان تجد الأولياء و الأقطاب فهذه الأخيرة حضرة ظاهرة وليست باطنة…وينبغي أن تعلم أن الإنسان الكامل صغير الحجم لطيف ، سريع الحركة ، فإذا تحرك حرك جميع العالم بحركته فعندما يكون في خلوته ويقول ” الله ” يحرك الكواكب و النجوم والشمس والقمر ويجلس كل ذلك بجانبه فذلك دليل على أنه ينظر إلى العالم عندئذ بالصورة الحقية التي خُلق عليها…وباستدعائه بتلك الحركة تتوجه الأسماء الإلهية نحوه ، فكان تلقي تنزل اسم من أسماء الله تعالى أعلى من تنزل الكون وما فيه
أمامك…ولأجل ذلك كله كان الإنسان الكامل هو روح العالم فلا قدرة للعالم أن يعيش بدونه و إليه الإشارة في الحديث المروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ رواه مسلم…فالإنسان الكامل هو الآخر في الصعود وهو الأول في النزول فلهذا جمعه الحبيب صلى الله عليه وسلم بأولية النبوة بحكم مبدأية الروح و آخرية النبوة بحكم الظهور الحسي فجمعها عليه الصلاة والسلام جمعية تامة
حضرة الخلود هي المبدأ الأول و الأخير لأنها تكشف اللثام عن معنى الإنسان الكامل الذي من عرفه عرف الكل ومن جهله جهل الكل…ولهذا المعنى كان يشير شيخ مشايخنا سيدي أحمد العلوي رضي الله عنه في قصيدته متحدثا بلسان الحقيقة المحمدية ” يامن تريد تدري فني ” وفي غيرها من القصائد التي تحوم حول هذا المعنى…إذ أن الحقيقة المحمدية هي لب الإنسان الكامل ومن ثمَ كانت الخلافة لدى العارفون هي خاصة بالإنسان الكامل فلابد أن يكون الخليفة على صورة مستخلفه…فالولي هو الذي أُخرج من الظلمات إلى النور قال تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) البقرة الأية 257…أما الخليفة فهو الذي استخلفه الحق على إخراج الناس من الظلمات إلى النور
و الإنسان الكامل هو عبد الله حقيقة والكون وما فيه تابعا له بل لولاه ما كان له ظهور فعن ابن عباس رضي الله عنه قال : أوحى الله إلى عيسى صلى الله عليه فيما أوحى أن صدق محمدا صلى الله عليه وسلم وأمر أمتك من أدركه منهم أن يؤمنوا به فلولا محمد صلى الله عليه وسلم ما خلقت آدم ولولا محمد صلى الله عليه وسلم ما خلقت النار , ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن
قال أبو بكر: فألقيته على أبي عبدالله محمد بن بشر بن شريك فأقر به وقال هو عندي عن جندل بن والق ) قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
ثم اعلم أن النبي هو الروح الأعظم المعبر عنه بالخليفة الأعظم والنبوة هي عبارة عن قبول النفس القدسي حقائق المعلومات عن الله تعالى بواسطة…والنبوة لها حالاتان ظاهر تنفعل عن العقل الأول كيف ما كان الأمر و الحالة الثانية باطنها ولاية…فتصبح أن الحقيقة المحمدية هي مداد وذات العقل الاول فهو يمثل بداية الخلقة ونهايتها فهو الأول قبل القبل إذ أول شيء أظهره الحق تعالى في سلسلة الموجودات هو نوره صلى الله عليه وسلم وهو الأخر في صفة الصورة البشرية الأينية
فهو صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق على الإطلاق حبيب الله الأعظم وهو الذي أظهره الحق في حضرة الأفعال قرآنا يمشي وهو الذي له النبوة و الخلافة والولاية بالأصالة أما غيره من الأنبياء عليهم السلام فكانت لهم النبوة بالنيابة عن حضرته الشريفة فهم صور الحقيقة المحمدية قبل ظهور فص الخاتم وورثته من أولياء أمته هم صور الحقيقة المحمدية في دائرة الولاية بعد ظهوره الشريف …لذلك على المريد أن يجتهد حتى يرى النور قبل الشيء مادام أن الخلقة كلها خلقت من نوره صلى الله عليه وسلم
ثم اعلم أن أولى الخلق بمقام الولاية بعد الأنبياء و الصحابة الكرام رضي الله عنهم هم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم الأقرب إلى المبدأ الأول فهي الأولى بواسطة الواسطة التكوينية…فكل موجود هو موجود بحبهم فمن لم يحبهم غير موجود أصلا…لأن محبتهم حسنة و الحسنة نور وفي الحديث الذي أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في
قوله تعالى: ” وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ” قال: (المودة لآل محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ) رواه السيوطي في إحياء الميت…فمحبة الخلق هي شعاع من نورهم فمن كان طيبا فهو من هيكلهم فهم الأقرب إلى النور أما غيرهم فأقرب إلى الشعاع لا إلى النور…ومن كان غير طيب فهو من انعكاس ظلهم لأن بغضهم سيئة و السيئة ظلمة في القلب… لذلك ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما،قَالَ” : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ ، وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي” أخرجه الترمذي و صححه السيوطي فظهر تسلسل المحبة فمحبتنا لآل البيت تقودنا إلى محبة جدهم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ومحبته عليه الصلاة والسلام من محبة الله تعالى
واعلم أن ولاية النبي أوسع من نبوته ونبوته أوسع من رسالته وإن شئت أن تمثل لذلك تقول أن ثمرة الزيتون فيها القشرة واللب و الزيت فالرسالة هي القشرة و النبوة هي اللب والولاية هي الزيت وكل هذا في ذات النبي وفي نفس النبي لا غير…وكون الرسالة قشرا ليس تنقيصا لها حاشا وكلا وخاب كل عبد عن أمرها ولَّى و إنما قصدنا بذلك ظهورها إذ الرسالة شديدة الظهور كما أن القشرة ظاهرة على اللب و اللب ظاهر على الزيت و الزيت أشد خفاءا من اللب إذ لا يظهر إلا بعد السحق و المحق…فافهم
واعلم أن الولاية التي هي وراثة نبوية سارية في الأمة المحمدية المرحومة بحكم
العلماء ورثة الأنبياء تنقسم إلى قسمين : ولاية أزلية ذاتية حقيقية وهي ولاية الإطلاق ومظهرها الختم…وولاية مستفادة من ولاية الإطلاق…فالأول يكون مجددا وواضعا للأصول و الثاني متبعا لأصول الأول لا يخرج عنها فلا قدرة له على وضع أصول جديدة للسير في مراتب الإسم…وهما معا يرجعان إلى الحقيقة المحمدية وهم معا من أهل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم…فالنبوة مختومة من حيث النبأ ولم يبقى إلا الولاية من حيث التصرف في النفوس أبد الآباد فباب الولاية يبقى مفتوح وباب النبوة مسدود قد سُدَّ ببعثة النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم