بسم الله الرحمن الرحيم
مجالس الشيخ المربي العارف بالله تعالى سيدي محمد فوزي الكركري رضي الله عنه
مجلس الجمعة : 5 صفر 1436هـ الموافق ل 28 نونبر 2014م
مقام النبوة : حضرة الخلود
اعلم أخي الحبيب أن الألف المقدر هو مَعِين حضرة الأنبياء، و هو مقام الخالدين في أعلى مراتب القرب الذي لا عودة فيه للوراء، لذلك ما من نبي اصطفاه الحق و اجتباه وخصه بالنبوة فنكث عهده مع الله وحاشاهم من ذلك على نبينا وعليهم الصلاة والسلام…فمن هنا يكتمل العقل الأكبر كأنك نقطة في فلك مستدير من حضرة إلى حضرة من أول الختمية إلى أخر الختمية التي جمعها المصطفى صلى الله عليه وسلم
واعلم أن النبوة مشتقة من النبأ و النبأ هو الخبر، انشقت هذه الحضرة النبوية من هذا المقام العظيم الذي هو القرآن العظيم ( عم يتساءلون عن النبأ العظيم) النبأ الآية 1 و2…فالنبوة إخبار عن الله تعالى وهي منة من الله تعالى وغير مكتسبة فلا يتخيل أحد أنها تنال بالاكتساب إنما هي كما قال تعالى : ( واصطنعتك لنفسي ) طه الآية 41…أما بالاكتساب والاجتهاد فيكون للتابعين للأنبياء عليهم السلام بالمشي على خطاهم حتى تحصل الوراثة لهم في العلم ( العلماء ورثة الأنبياء ) رواه أبو داود وغيره…فيجتهد العبد من أجل معرفة هذا المقام في الألف المقدر
واعلم أن النبوة باعتبارها مجلى العقل الأكبر أو الفيض الشامل كما نحب تسميته في طريقتنا وهو مقام فوق فكر المتفكرين وهو ليس من فكرة المريد فالفكر دون ذكر تعدي لأن الفكرة لا تأتي إلا بعد ذكر طويل حتى تصير أوقاتك كلها ذكرا كما قال تعالى : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) وبعد ذلك يحق لك دخول ميدان الفكرة لأن باطنك قد تنور بذكر الله تعالى لذلك قال تعالى بعدما مدح الذاكرين على كل حال : ( ويتفكرون في خلق السموات و الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ) عندئذ تصل إلى تنزيه كلي على نعت كاف التشبيه سبحانك بمراتبه العشرين الصفاتية ثم قال تعالى ( فقنا عذاب النار) لأن المعرفة توجب الخشية ولابد لذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية ) رواه البخاري ثم قال تعالى : ( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار) عودة إلى الربوبية لتعلم عبوديتك له سبحانه وتعالى…وعندئذ يصبح المريد يسمع مالا يسمعه المرء العادي ويرى ما لا يراه غيره كما قيل
قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرون
فيدرك الخفايا و المعاني التي يهبها الحق تعالى لأهل محبته وما رزقهم من بصر حديدي وقوة روحانية ولطافة دقيقة تكشف لهم عن خفايا العلوم اللدينة…وعندما نقول الروحاني نقصد به صاحب القوة النورانية الذي له بصر يعود بالأشياء إلى أصلها وليس الروحاني الجني…وهذه اللطافة الروحانية هي التي تكشف عن العلوم اللدينة بنور الله تعالى الأزلي فالسياحة الحقيقية هي عندما ترى بنور الحق وتسمع بنور الحق نور السموات والأرض الذي يتعرف لك بالتمثيل ( مثل نوره ) حتى تظهر لك المراتب المشكاة والمصباح و الكوكب الدري ثم الشجرة المباركة فيصبح الكون كله لك
واعلم أن سورة النبأ التي سبق الإشارة إليها قد قَسَّم الحق فيها النفوس وبينها لذلك جاءت عدد أياتها أربعون أية بعدد النفوس التي اختصرها أهل الله تعالى في سبع مراتب فبدأت السورة بحرف العين والميم ( عم ) فالعين بسبعين مرتبة بعدد الحجب السبعين والميم بأربعين مرتبة إشارة إلى النفس الكاملة المحمدية لذلك قال تعالى في كتابه العزيز: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) التوبة الآية 128…فتنكشف لك 70 رسما من الرسوم الإيمانية لأن الإيمان بضع وسبعون شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق فأزل نفسك عن الطريق لأنها أذى
أما قوله تعالى : ( عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ) فهو بيان واضح على أنه إذا ظهرت واتضحت أنوار و إشارات الطريق و أتت بأسرار خفية علوية نورانية فلابد للنفوس أن تتكلم ويقع الاختلاف فيها لأن للوارث نسبة مما لمورثه فكما أن الأنبياء وقع عليهم الإنكار والتكذيب كذلك يعاني الولي الإعراض والتكذيب خاصة عندما يسمع الناس المريدين يتحدثون بما أنعم الله عليهم من أنوار و أسرار فالبعض يصدق ويقول بعض الناس هذا من الشيطان فكأنه يقول أن الظلمة من الحق وهو لا يشعر مع أن المتدبر لكلام الله تعالى ولكلام رسوله صلى الله عليه وسلم سيجد أن النور متى ما ذكر إلا وجاء منسوبا إلى الحق تعالى أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أو مضافا إلى الأعمال الصالحة التي جاءت بها الشريعة المطهرة لأن حقيقة التدين هو تعمير الباطن بالأنوار أما الظلمة فجاءت منسوبة إلى الشيطان تارة و إلى الطاغوت أخرى و إلى الأعمال التي لا ترضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى في أية جامعة لذلك المعنى توضح ذاك الصراع بين أهل النور و أهل الظلام
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) البقرة الآية 257 …فإذا قلت للمرء رأيت النور وتقصد به المعنى دون حقيقته الظاهرة التي هي الضياء يصدقك أما إذا قلت له إنني أرى النور بعين رأسي يكذبك فيكثر الكلام بين النفوس…فهذه القبضة النورانية التي أظهرها الحق في السكون فتقيد الإطلاق…فالنبوة هي التي قيدت الإطلاق في محل السكون لأن الأنبياء هم الذين يخبروننا عن الله تعالى فينزلون الإطلاق في التقييد…فعندما يسمع الناس ما اتو به عن الحق تعالى منهم من يصدق ومنهم من يكذب فما جاء به الأنبياء إما أن يكون حجة لك وعلامته الإتباع أو عليك وعلامته الإعراض كما قال تعالى : ( وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) الزمر الآية 47
واعلم أن الشرائع نزلت على قدر السؤال والسؤال منه ما يأتي باليسر ومنه ما يأتي بالتشديد لذلك كره صلى الله عليه وسلم السؤال الذي لا فائدة تحته فجاء التوجيه النبوي كما روى سيدنا أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أيها الناس ! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل : أكل عام ؟ يا رسول الله ! فسكت . حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت : نعم . لوجبت . ولما استطعتم . ثم قال ذروني ما تركتكم . فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم . وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) حديث صحيح…ولقد حدثنا القرآن الكريم عن الذين أكثروا السؤال فصعبوا على انفسهم كبني إسرائيل في قضية البقرة التي كانت مبدأها عشق النفس وكسؤالهم للرؤية…وكذلك الحال للمريد مع شيخه لا يسأل على ما لا قدرة له للإتيان به ولا يطلب فإنه إن سأل و أعطي تحمل ما أُعطي بنفسه فيقع في العطب و إن أعطي بلا سؤال تحمل لأنه سيأخذه بالحق لا به
واعلم انك لن تدخل المدرسة المحمدية حتى تتزكى نفسك بحكم الهبة من الرحمن ( بل الله يزكي من يشاء ) ولكن فرض عليك أن تجاهدها حتى تكسب تلك النورانية فيظهر لك العلم الخفي الذي كان كان مستورا عنك في حضرة الخفاء ومنها ظهر هذا الظهور الأولي
و يبنغي أن تعرف أن هذا العم يبقى خفيا على من لم يصل إليه وظهور حالته الأولى للمتوجه هو الذي نعبر عنه بالبدء فكل مريد يبدأ لديه هذا الظهور مع بدأ ظهور النور… وكل واحد له بدأ وله نهاية في البداية ترى النور نجما مشرقا في سماء قلبك ولم يكن لك من قبل ثم تمشي في الطريق حتى تصبح نقطة نهايتك هي نقطة بدايتك
ولما كانت تتعدد الأحكام على نقطة البدأ كان كل واحد ينظر إليها بنظرة مختلفة وهي واحدة في نفسها مثل الأسماء تتعدد حولها الأحكام وتبقى حقيقتها واحدة…لذلك كان الحكم على نقطة البدأ بالوجود هو صفة ذاتية فيها لأن وجودها متعلقا بوجود الحق عز وجل
واعلم أن كل تجلي وقع في الوجود سواء في الغيب أو الشهادة فهو من اسمه الظاهر أما اسمه الباطن فلا تستطيع أن تقول تجلى لي الحق باسمه الباطن لأن التجلي هو عبارة عن ظهور لمن تجلى له فالباطن يبقى دائما باطن ما تجلى لك كان ظاهرا لك وباطنا لغيرك
أما اختلاف النسب فيما بعضها البعض فتقول هذا قبل هذا يعني إذا أعطيت اتساعا تقول الحق عز وجل هو الأول فمن أنت بالسلامة الثاني…فالأول كصفة للحق لا يعتبر فيها الإنسان والأشياء كثان لأن نسبة الإنسان ليست من نفس رتبة الحق وإن قلت الأخر فليس معنى ذلك انه الأخر بعد الإنسان لأن الإنسان لا شيء هو عدم…فالأول والأخر هما دليل على جمع الحق عز وجل للأضداد لذلك لا يعرفه إلا من جمع الضدين