محمد نبي المرحمة
الحمد لله الذي أنار الوجود بطلعة خير البرية سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام قمر الهداية و كوكب العناية الربانية مصباح الرحمة المرسلة و شمس دين الاسلام من تولاه مولاه بالحفظ و الرعاية و العناية السرمدية وأعلى مقامه فوق كل مقام و أنال أمته أزكى المراتب العلية و فضلها على سائر الأمم السالفة القبلية فنالت به درجة السعادة والقرب والاحترام وانزل تشريفها في محكم الآيات القرآنية “كنتم خير امة أخرجت للناس “.عطر اللهم روضه الشريف بالبكرة و العشية بعطر شذي من صلاة و سلام و تحية .و الصلاة و السلام على الرحمة المهداة و النعمة المسداة، سيدنا و مولانا محمد المزكى و المزكي
أمــــــــــــا بعد
لقد زكى الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم تزكية ما زكاها أحدا من خلقه
زكاه في “عقله” فقال جلا وعلا : “ما ضل صاحبكم وما غوى
زكاه في “صدقه” فقال جلا وعلا : “و ما ينطق عن الهوى
زكاه في “بصره” فقال جلا وعلا : “ما زاغ البصر و ما طغى
زكاه في “فؤاده” فقال جلا وعلا : “ما كذب الفؤاد ما رأى
زكاه في “صدره” فقال جلا وعلا : “ألم نشرح لك صدرك
زكاه في “ذكره” فقال جلا وعلا : “ورفعنا لك ذكرك
زكاه في “طهره” فقال جلا وعلا : “و وضعنا عنك وزرك
زكاه في “معلمه” فقال جلا وعلا : “علمه شديد القوى
زكاه في “حلمه” فقال جلا وعلا : “بالمؤمنين رؤوف رحيم
وزكاه “كله” فقال جلا و على : “إنك لعلى خلق عظيم
أغــر عـــليه بـــالنبوة خــــــاتــــم **** مــــن نـــور يـــلـــــوح ويـــشــهــد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه **** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
و شــــق لـــه من اسمه ليجلـــه **** فـــذو الــعرش محمود وهذا محمد
جمع الله – سبحانه وتعالى – في نبيِّه محمد – صلى الله عليه وسلم – صفات الجمال والكمال البشري، وتألَّقت رُوحه الطاهرة بعظيم الشمائل والخِصال، وكريم الصفات والأفعال، حتى أبهرت سيرته القريب والبعيد، وتملَّكت هيبتُه العدوَّ والصديق، وقد صوَّر لنا هذه المشاعر الصحابي الجليل حسان بن ثابت – رضي الله عنه – أبلغ تصوير حينما قال
وأجملُ منك لم ترَ قطُّ عيني وأكملُ منك لم تلد النساءُ
خُلقتَ مبرَّأً مــــــن كل عيبٍ كــأنك قد خُلِقت كما تشاءُ
ومن سمات الكمال التي تحلَّى بها – صلى الله عليه وسلم – خُلُقُ الرحمة والرأفة بالغير، كيف لا وهو المبعوث رحمةً للعالمين، فقد وهَبه الله قلبًا رحيمًا، يرقُّ للضعيف، ويحنُّ على المسكين، ويعطف على الخلق أجمعين، حتى صارت الرحمة له سجيَّة، فشمِلت الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمؤمن والكافر، فكان بحق الأنموذج الفريد و الأوحد الذي استحق صفة الحق: قال عز وجل واصفا حبيبه محمد : لقد جاءكم رسول من أنفسكم
قال الشاعر
وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرُّحماءُ لا
يا أيُّها الأمي حسبُك رُتـــبةً في العلم أنْ دانت بك العلماءُ
ومن الأمثلة الرائعة من رحمته ، ما يرويه أبو هريرة فيقول: بينما نحن جلوسٌ عند النبيِّ إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكْتُ. قَالَ: ”مَا لَكَ؟” قال: وقعتُ على امرأتي وأنا صائمٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟” قال: لا. قال: “فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟” قال: لا فقال: “فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟” قال: لا
قال: فمكث النَّبيُّ فبينا نحن على ذلك أُتِيَ النبيُّ بِعَرَقٍ فيها تمر، قال: “أَيْنَ السَّائِلُ؟” فقال: أنا. قال: “خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ”. فقال الرَّجل: أعلى أفقر منِّي يا رسول الله؟ فواللَّه ما بين لابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي. فضحك النبيُّ حتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثمَّ قال: “أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ”. فهو بأبي و أمي حبيبي عليه الصلاة والسلام ما نفر عبدا عن ربه، فأحرى أن يقنطه من روح الله، فتراه يعفو عن من ظلمه، و يتجاوز، وصل عفوه الأعداء قبل الأصدقاء
دخل عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة في غير ما أبهة و بهرجة، مطأطئ الرأس، ذاكرا شاكرا. قال أحد المسلمين-وهو سعد بن عبادة – :اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة أذل الله قريشا ، فسمع ذلك أبو سفيان ،فنادى : يا رسول الله أمرت بقتل قومك إن سعدا قال كذا ، واني انشدك الله وقومك فأنت ابر الناس وارحم الناس، وأوصل الناس فوقف النبي ( صلى الله عليه واله ) وقال : بل اليوم يوم المرحمة اعز الله قريشا ، وأرسل إلى سعد وعزله عن اللواء وقال لعلي ( عليه السلام) : خذ منه الراية وناد فيهم ، فاخذ علي ( عليه السلام) اللواء وجعل ينادي : اليوم يوم المرحمة
وروى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَجُلا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَصْحَابُهُ فِيهِ ، فَقَالُوا : مَهْ مَهْ ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” دَعُوهُ لا تُزْرِمُوهُ فَلَمَّا فَرَغَ دَعَاهُ ، فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلاةِ ، ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ شَنًّا وَتَرَكُوهُ ” . وفي رواية لأبي داود قال عليه السلام : إنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين . صبوا عليه سجلا من ماء أو قال ذنوبا من ماء
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ”[1], وفي رواية: “وَكَانَ رَسُولُ الله يُحِبُّ مَا خَفَّ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْفَرَائِضِ”[2]؛ ولذلك كان كثيرًا ما يقول كلمة: “لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي”, دلالة على أنه يحب الأمر, ولكنه يخشى الفتنة على الأمة
فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج في كل المعارك لكي لا يتحرَّج الناس في الخروج في كل مرة, وكيف كان لا يؤخر صلاة العشاء إلى منتصف الليل, وكيف رفض الخروج إلى قيام الليل جماعة في رمضان خشيةَ أن يُفرَضَ على المسلمين, وكيف تأخر في الردِّ على من سأل عن تكرار الحج في كل عام خشية فرضه بهذه الصورة على المسلمين, وهكذا
وكان صلى الله عليه وسلم يعطف على الأطفال ويرقّ لهم ، حتى كان كالوالد لهم ، يقبّلهم ويضمّهم ، ويلاعبهم ويحنّكهم بالتمر ،كما فعل بعبد الله بن الزبير عند ولادته
وجاءه أعرابي فرآه يُقبّل الحسن بن علي رضي الله عنهما فتعجّب الأعرابي وقال : ” تقبلون صبيانكم ؟ فما نقبلهم ” فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : ( أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة ؟
وصلى عليه الصلاة والسلام مرّة وهو حامل أمامة بنت زينب ، فكان إذا سجد وضعها ، وإذا قام حملها
وكان إذا دخل في الصلاة فسمع بكاء الصبيّ ، أسرع في أدائها وخفّفها ، فعن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي ،فأتجوز في صلاتي ، كراهية أن أشقّ على أمّه) رواه البخاري ومسلم
وكان يحمل الأطفال ، ويصبر على أذاهم ، فعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ( أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي ، فبال على ثوبه ، فدعا بماء ، فأتبعه إياه) رواه البخاري
وكان يحزن لفقد الأطفال ، ويصيبه ما يصيب البشر ، مع كامل الرضا والتسليم ، والصبر والاحتساب ، ولما مات ابنه إبراهيم عليه السلام فاضت عيناه ، فقال سعد بن عبادة – رضي الله عنه : ” يا رسول الله ما هذا؟ ” فقال : هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء
عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسرَّ إليَّ حديثًا لا أحدث به أحدًا من النَّاس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفًا أو حائش نخل، قال: فدخل حائطًا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النَّبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه، فسكت، فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتدئبه
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرًا؟ قال: إن شئتم. فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النَّبي صلى الله عليه وسلم فضمَّه إليه ، تئنُّ أنين الصبي الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها)) ; وفي رواية عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ ذَهَبَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الْجِذْعُ، فَأَتَاهُ فَاحْتَضَنَهُ، فَسَكَنَ. فقال «لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» البخاري
أما من حيث العلم اللدني فإنه صلى الله عليه و سلم، رحمة ظاهرة و باطنة، فهو عليه السلام يقول في الحديث الصحيح: ” حياتي خير لكم ، ووفاتي لكم خير ، تحدثون فيحدث لكم ، فإذا أنا مت عرضت علي أعمالكم ، فإن رأيت خيرا حمدت الله ، وإن رأيت شرا استغفرت الله لكم ” .فكيف لا وهو الذي قال فيه جلت شؤونه: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (، فهو جل في علاه جعل لحبيبه نصيبا من رحمته بأن وصفه بالرحيم المشتق أصلا من الرحمن، واسم الرحيم كما قال أهل الله خاص بالمؤمنين من جهة، -وهي نظرة الشرع-،وهي نيابة عن الرحمن في ملكه، وملكوته من جهة أخرى، فكما أن الرحمن وسع كرسيه السماوات والأرض، و ما كرسيه حقيقة إلا رحمته، فإن رحمته التي وسعت كل شيء ما هي إلا محمد ، لأنه هو الرحمة المهداة على الإطلاق، “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” فإنه عليه الصلاة و السلام عين العين، و إنسان الأين، عين الرحمة من حيث الجنس والمظهر. فهو القبضة الأصلية التي تمظهرت بألوان الكائنات.و الرحمن هو الرحيم باطنا ، كما أن الله باطن الرحمن،قال الله عز وجل:” قل ادع الله أو ادع ارحمن، أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى”،وقال في آية أخرى:”قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين”فاستعمل اسم الرحمن بدلا عن اسم الله الأعظم”الله” لذلك نقرأ كل يوم بسم الله الرحمن الرحيم في هذا الترتيب، دلالة واضحة على ارتباط هذه الأسماء الشريفة ارتباطا عجيبا يحوي بين جنباته أسرارا لا تشهدها إلا القلوب السليمة التي شربت من كيزان الحب المصطفوي على يد شيخ عارف واصل فان
اللهم صل وسلم وبارك على نورك الأسبق… الذي أبرزته رحمة شاملة لوجودك…نقطة مركز الباء الدائرة الأولية، وسر أسرار الألف القطبانية، الذي فتقت به رتق الوجود…فهو سرك القديم الساري، وماء جوهر الجوهرية الجاري، الذي أحييت به الموجودات، من معدن وحيوان ونبات، قلب القلوب، وروح الأرواح، وإعلام الكلمات الطيبات، القلم الأعلى، والعرش المحيط، روح جسد الكونين، وبرزخ البحرين
و أخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
بقلم الفقير هشام متوكل