بسم الله الرحمن الرحيم
يقول شيخي المربي الكبير سيدي محمد فوزي الكركري رضي الله عنه في حكمة من حكمه
تعال إلي حتى تصطلح نار شهوتك مع ماء روحانيتك ويرعى ذئب عدمك مع غنم وجودك
يحاول الشيخ قدس سره في هذه الحكمة تنبيه الخلائق إلى صرف إهتماماتهم من أجل الكشف عن جواهرهم الثمينة التي أودعها الحق فيهم…حتى يرفعوا هممهم في طلب شهود العظمة الظاهرة في ذرات المحدثات… خروجا من الغفلة إلى اليقظة فيقول : أيها الطالب لسر حقيقته و طلسم معناه ( تعال إلي ) إشارة منه رضي الله عنه إلى مقام التربية والإرشاد الذي وهبه الله تعالى من أجل نفع العباد…وهذا المقام وراثة نبوية من المنزل المحمدي الذي قال فيه جل من قائل : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) الجمعة الأية 2
فمقام التزكية ( التصوف) هو إختصاص محمدي بالأصالة ولورثته بالنيابة بحكم قوله صلى الله عليه وسلم : ( العلماء ورثة الأنبياء )…وتأملوا معي إلى جمال الإشارة في هذه الأية من هذه السورة المباركة وبديع مناسبتها لما نحن بصدده…فاسم السورة : الجمعة إشارة إلى مقام الجمع الذي يحصل فيه العبد على محبوبه وهو أشرف ما يناله العبد من عملية التزكية…ثم إن ترتيب الأية في السورة إثنان إشارة إلى تلك العلاقة التفاعلية بين المُزَكِي و المُزكى ( الشيخ والمريد أو المربي والمتربي )…فالمريد هو الذي يلبي نداء ( تعال إلي ) والشيخ يحقق له ما ذكره في باقي الحكمة… والشيخ الكامل المأذون بالظهور يجوز له القول دالا على خصوصيته ( تعال إلي) حتى يعرفه طلاب الحق والحقيقة…فهو لا يقولها حتى أصبح روحا خالصة لا يدل إلا على الله بكلياته…قد سُقيت حقيقته بسر المحبة بكنه ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع بــه ، وبصره الذي يُبصر به ويده التـي يبطش بهـا ورجله التي يمشي بها ) رواه البخاري ولقد كان شيخ مشايخنا سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يمشي في الأسواق والمريدون يحفون من حوله من الامام والخلف ويضربون الطبول وقائل يقول : من أراد القطب الغوث فعليه بالشاذلي… وفي السيرة الشريفة كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول في غزوة حنين : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب…جمعاً للقلوب عليه فلذلك جاز لأهل التربية النبوية أن يعرفوا الناس بخصوصياتهم إن كانوا مأذونين بالظهور كما هو شأن صاحب الحكمة حفظه الله تعالى فافهم.
فإذا جمعك الله تعالى مع الشيخ المربي فإنك ستحصل عندئذ على سر السعادة و إكسير الحياة…لذلك قال الشيخ رضي الله عنه بعد ذلك ( حتى تصطلح نار شهوتك مع ماء روحانيتك ويرعى ذئب عدمك مع غنم وجودك ) إشارة منه حفظه الله إلى بعض فوائد هذه الصحبة…وهي أن يحصل لك إعتدال طبيعتك التي خلقك الله عليها فتعطي لكل ذي حق حقه فيك…وتكون أنت البرزخ الوهمي بين أضدادك…فلا ماء روحانيتك يطفئ نار شهوتك بالكلية إذا لأصبحت ملكا و لأنعدمت خاصية البشرية عندك ( من أكل وشرب…إلخ ) ولأنتفى سر التكليف الذي جاءت من اجله الشرائع وهذا لا يصح…و الحق سبحانه وتعالى قد جعل البشرية هي غطاء الروحانية …ولا نار شهوتك تبخر ماء روحانيتك حتى تُجردك من إنسانيتك أو قل من ادميتك التي علمها الحق الأسماء كلها أو قل من روحانيتك التي نسبها الحق تشريفا اليه فقال : ( قل الروح من امر ربي ) فلو طغت الشهوة التي هي من خصائص الأدمية عليك يوشك أن تلحقك بالحيوان وتجعلك صنما لا روح فيه…فتخسر أهم لطافة فيك والتي بدونها أنت لا شيء ، نعم ماء الروحانية يُهذب الشهوة التي هي صورة للنفس الأمارة ويجعلها نفسا مطمئنة والله يزيد لمن يشاء…لذلك جاء الشيخ بكلمة( تصطلح ) ولم يقل تُخمد أو تطفئ أو تزيل أو غيرها من الكلمات التي تفيد التنافر الكامل بين ماء الروح ونار الشهوة…وهذه الروحانية تتقوى فيك بصحبة اهل النفوس الكاملة الذين تصرفوا في عوالهم بإسمه تعالى : ( العدل) فعدلوا بين عوالمهم حتى لا يطغى جسد على روح ولا روح على جسد وبإسمه تعالى : ( الحق) فأعطوا لكل ذي حق حقه…فهؤولاء هم من يُستمد منهم نور الروح ويُتعلم منهم كيف تصبح عبدا ربانيا…وأول علامة تعرف بها تحقق الربانية فيك هي ( أن يرعى ذئب عدمك مع غنم وجودك ) وهذا لا يكون إلا في حضرة الإمكان لانها الحضرة الواحدة التي تقبل زيادة العبد او تقبل ظهور الصور العدمية فيها فيظهر الخلق قائما بالحق …وهذه العبارة السابقة هي أخر شطر في هذه الحكمة المباركة…فحصول هذا فيك دليل على تحققك بإسمه تعالى ( العدل ) في مملكتك الإنسانية كما تقدم…فحينئذ ترعى ذئب عدمك مع غنم وجودك فتظفر على سر الضدين…والعدم المقصود في الحكمة ليس العدم المحض بل العدم الذي ظهر في حضرة الإمكان وتسمية العدم بالذئب إشارة لطيفة حيث أن الذئب ورد في القرآن الكريم وأصبح مثالا للبراءة فنقول : فلان بريئ براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام …ووجه الإشارة في التسمية أن العدم بريئ من الوجود براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام فافهم…ونقصد أن المخلوقات و إن كانت مثبتة فإن وجودها مجازي بحكم ( كل من عليها فان ) الوجود المجازي قائم بالوجود الحق
أما وصف الوجود بالغنم فلكون الغنم ورد ذكرهم في الشرع الحنيف بأوصاف السكينة فقال صلى الله عليه وسلم (والسكينة في أهل الغنم ) متفق عليه وإنما نالوها بالمجاورة للغنم والغنم كذلك رمز للتضحية ( مثال كبش إبراهيم عليه السلام ) والغنم رمز للموت كما جاء (يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح ) متفق عليه
فكأن هذه الصفات الثلاثة السكينة والتضحية والموت ( الفناء) هي المحطات التي ينزل بها السالك في طريقه إلى كشف الغطاء عن حقيقة الوجود…فأولها سكينة حين تسكن إضطرابات النفس والجوارح عندما يشرق عليها النور المحمدي وثانيها تضحية تامة من أجل المحبوب وهذا بداية الفناء الذي هو المحطة الثالثة في سيرك وإذا تحقق فناؤك ظهر لك سر الوجود…كما قيل
كـــان لي ظل رســـوم *** فاستوت شمسي فــزال
عشت في المحبوب حقا *** بعدما كنت خيـــــــــال
وهذا السير هو معنى الرعي الذي ذكره الشيخ قدس سره في الحكمة والله أعلى وأعلم