الفهم عن الله
الفهم عن الله اولا هو شيء مطلق بالنسبة للخلق و لا يحد بمراتب او انواع و كيفيات. الفهم عن الله هو في الحقيقة سر يقذفه الله في قلوب خلقه لكي ينتج القوة التي توقد همة القلب. و الله سبحانه و تعالى لم يخص فقط الانسان بالفهم عن الله و لكن جعله مطلقا يحوي كل الخلائق. فلقد ورد في القران ان الله يوحي الى النحل ففهمت, و ان النمل يتكلم و ان سيدنا سليمان علمه الله منطق الطير و الجن و كل مخلوق حي. بمعنى ان كل مخلوق حي فهم عن الله مراده فيه و الا لم يكن لسيدنا سليمان ان يفهم مراد الله فيهم. و حتى المخلوقات الغير حية لها فهم خاص عن الله و هي تعرف كيف تنبت و كيف تعطي الثمار و غيره, و حتى الحجر فهم عن الله و سبح في يد حبيبه المصطفى صلى الله عليه و سلم. اذن الفهم عن الله سر يقذفه الله في قلوب مخلوقاته لارسال الهمم. و كل المخلوقات لها قلب يتلقى به هذا السر و له همة يرسلها. الا ان جميع قلوب المخلوقات ليست عاقلة و ليس لها قدرة على التغير عن هذه النشأة الاولى. الا قلب الانسان و الجن جعل الله فيه قدرة للتغير عن النشأة الاولى. فان كان القلب يرسل همته في طلب الله يصير قلبه عاقلا. ” فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا “. اما اذا ارسل قلب الانسان همته في طلب الدنيا يبقى القلب على نشأته الاولى و هؤلاء مثلهم الله بالانعام لهذا السبب:” أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا “. اذن حتى الكافر يفهم عن الله في مراد الله به في الدنيا و تجده يصنع السيارات و يبني العمارات الناطحات السحاب, و يتقن جراحات جسمية تحير فيها العقول و الكثير الكثير من الفهم عن الله في امور الدنيا. قال الله تعالى: “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ “. يعلمون لان العلم يأتي بعد العمل و العمل يأتي بعد الفهم
و اذا نظرنا فقط الى الفهم عن الله فيما يخص الانسان و خاصة القلب العاقل اي قلب المسلم الذي يرسل همته في طلب الله نرى ان الفهم عن الله هنا ينقسم الى اربعة انواع و كل نوع يخص مرحلة من مراحل النفس الاربعة. اول مرحلة للنفس هي مرحلة النفس و فيها سبعة مراتب من اللوامة الى المطمأنة التي ترجع الى ربها راضية مرضية. عندها تتحول النفس الى مرحلة الروح: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي” . و بعد الروح تأتي مرحلة القلب و هذه المرحلة هي التي عنا الله في: “إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ” و الذي عنى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث القدسي:”لم تسعني سماواتي و لا أرضي و وسعني قلب عبدي المؤمن “. يعني مرحلة المشاهدة. و بعد مرحلة القلب تأتي مرحلة السر: “وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى”. يعني مرحلة السر لا تفوقها الا الالوهية التي تعلم السر و اخفي, و لا يوجد شيء اخفى من السر سوى الحقيقة الكنزوية الالهية الاولى التي تسمى الحضرة الاحدية.
فالفهم عن الله في مرحلة النفس هو للعامة من الناس و حتى الفقراء المريدين تكون بدايتهم في مرحلة النفس الى ان يترقوا الى النفس المطمأنة. و كل الناس سواسية في الفهم عن الله في مرحلة النفس, يعني الكل يفهم عن جهل و يعمل عن جهل و يعلم عن جهل و لا فرق هنا بين أمي يرعى الغنم و امام مسجد او طفل صغير في الدرساة الابتدائية و بروفيسور في الجامعة. الكل جاهل في الفهم عن الله في عبادة الله و طلبه, و الله لا يعبد بالجهل كما قيل.
و الفهم عن الله في مرحلة الروح هي للخاصة من اهل التصوف الذاكرين السالكين. بعدما فرغ الفقير المريد على يد شيخه المربي بالترقي في مرحلة النفس الى مرتبة النفس المطمأنة يصير مؤهلا للدخول في مرحلة الروح. فيأذن له الشيخ بدخول الخلوة و ذكر اسم الله المفرد “الله” لمدة معينة حتى تتحول نفسه الى روح و هذا لا يكون الا اذا مات المريد موتا معنويا عن كل شيء و فنا فنائا كليا في الله. فيكون له القتح الذي هو تحول النفس الى روح و يعطيه الشيخ السر الذي يدخل به في الفهم عن الله في مرحلة الروح. و بدون شيخ مأذون من رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يستطيع اي احد ان يتحول من مرحلة النفس الى مرحلة الروح الا بالجذب. و المجذوب له روح و ليس له سر و لهذا يعاني الكثير. وهنا تبرز اهمية الشيخ في التربية و السلوك. لان السلوك يكون بجذب خفيف يتبعه سر الفهم او بتحول من مرحلة الى مرحلة مع تسليم الاسرار الخاصة بها. و كل من يتكلم في هذا الشأن و هو ليس من السالكين فهو زنديق كما قال الامام مالك: من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق . و فقه التصوف هي التربية و السلوك بعينها و ليس المراد منها فقه التشريع. ففقه التشريع موجود في المئات من الكتب في الاسواق.
و الفهم عن الله في مرحلة القلب هي للخاصة من اهل التصوف الذاكرين الواصلين او كما يقول البعض خاصة الخاصة. كما قلنا مرحلة الروح هي مرحلة السلوك في طريق اهل الله. فاذا من الله على عبده الفقير بالجود و الكرم و قبله بضعفه و اعانه على قلة حيلته و طوى له الطريق يجعله من اهل الوصال او اهل الخضرة الواحدية التي نسميها نحن الحقيقة الكنزوية الالهية الثانية. فيكون الله سمع العبد و يد العبد و رجله و لسانه و عينه و كل صفاته. و اذا فلنا ان مرحلة الروح تشترط شيخا مأذونا فما بالك بهذه المرحلة التي هي اصعب و اكبر.
و الفهم عن الله في مرحلة السر هي للخاصة من اهل التصوف الذاكرين من اهل الفناء. فاذا تمكن العبد في مرحلة القلب و تخلق بجميع صفات الله صار مؤهلا الى التحول الى مرحلة السر و هي مرحلة الفناء في الله. فبعدما كان الله سمع العبد و باقي صفاته اصبح الله للعبد هو كما قال في الحديث القدسي: “كنت سمعه الذي يسمع به….و…كنت هو…و… كنت هو ثلاث”. و هذه المرحلة لا تشترط فقط شيخا مأذونا و لكن تشترط شيخا مأذونا من اهل العشرة اسرار او بمعنى اخر شيخ في مقام القطب. و اهل هذه المرحلة هم بالنسبة للمتصوفين كالمتصوفين بالنسبة للعامة. هم قليل و هم اهل التصريف و اهل الكسف. هو الذين اذا ارادوا فقد اراد الله. اللهم اجعلنا منهم يا ارحم الراحمين.
اصحاب مرحلة النفس يفهمون من الله الاحداث, و اصحاب الروح يفهمون من الله الاسماء, و اصحاب القلب يفهمون من الله الصفات, و اصحاب السر يفهمون من الله الذات. او نقول النفس للملك و الروح للملكوت و القلب للجبروت و السر للذات. او نقول النفس للمحسوسات و الروح للانوار و القلب الاسرار و السر للذات. او نقول النفس للحقيقة المحمدية و الروح للحقيقة الاحمدية و القلب للحقيقة الواحدية و السر للحقيقة الاحدية. او نقول النفس للغفلة و الروح للمراقبة و القلب للمشاهدة و السر للفناء. و نكتفي بهذا المقال و نرجو من الله ان يزيدنا من الفهم في كل مرحلة من مراحل النفس و ان ييسر لنا اسرارها الخاصة الى ان يفنينا فناء كليا في ذاته العلية
بقلم الفقير محمد الطيبي