بسم الله الرحمن الرحيم
مجالس الشيخ المربي المحقق سيدي محمد فوزي الكركري رضي الله عنه
مجلس الجمعة : رجب 1436هـ الموافق ل 15 ماي 2015م
حضرة الخلود ” المجلس التاسع “
مقام الولاية : منصة التخلق الرحماني
اعلم اجرى الله على جوارحك كمال الموافقات ورزقك حقيقة المواصفات اننا قد استوفينا في المجالس السابقة – في حضرة الخلود التي هي جنة العارف و معينه في الشهود – الكلام عن كيفية العودة بالجسد الى النور كي يدخل العاشق منصة الفناء على بساط الحضور حيث يفنى عن وضعيته الجثمانية و يعود الى حقيقته النورانية الأمرية…وبعد هذا الإسراء الذوقي يعرج بحقيقته النورانية الى أصل النور ومعدن السرور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم…فاذا تحقق العبد بذلك المشهد سهل عليه السير والقسمة وظفر على باب اليسر والحكمة…إذ بوصوله الى السيد الجامع صلى الله عليه وسلم يكون قد أُذن له في الشراب ورُفع عنه الحجاب…وسُمح له ذوق مرتبة القبض التي تقبض فيها الأراوح وتتلاشى فيها الأقداح تلاشيا كليا حتى يصير العبد روحا كاملة ونفخة صافية تعود به الى ربها راضية مرضية و ترجع إليه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت…فمن وصل الى هذا المشرب المحمدي صار أهلا لأن يدخل منصة التخلق الرحماني وقد قيل: إن الله سبحانه أوحى إلى داود : « تخلَّق بأخلاقي، فإن من أخلاقي أني أنا الصبور». حيث يتخلق بأوصاف الرحمن تخلقا نورانيا على قدر ما أظهر الله له من أسمائه الحسنى وسَمَحْ.
فإذا دخل العبد ميدان التخلقات بكنه توالي المتابعات لسيد السادات صلى الله عليه وسلم صار كما يسميه أهل الله تعالى انسانا كاملا…فإن الإنسان الكامل هو الذي كَمُلت أوصاف نفسه في جميع الحضرات التي هي حضرات الأسماء و الصفات و الأحكام و الأفعال حيث يفنى فعله في فعل الحق شهودا بحكم لا فاعل إلاّ الله بذوق معنى قوله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) وقوله تعالى : ( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل )… ثم يفنى في حضرة الصفات فيتذوق معنى قوله تعالى في الحديث القدسي : ( كنت سمعه الذي يسمع بــه ، وبصره الذي يُبصر به ويده التـي يبطش بهـا ورجله التي يمشي بها )…وبعد ذلك يرتقي منصة الفناء في الذات فيشهد بعين قلبه معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ” ألا كل شيء ما خلا الله باطل ” )…وغير ذلك من الأيات المشيرة إلى قرب الرب من العبد والتي لا مطمح لأحد على فهمها بعقله إلا إذا ألقى قلبه على عتبة العظمة عاريا من فلسه وجنسه إذ ذاك يظفر العبد على كنز سلطان الذات…كل هذا ذوقا بصريح الايمان على ما جاء في القرآن دون حلول ولا اتحاد وإنما هو اتباع يصحبه التوفيق و عبودية يشملها التدقيق وثمرة الكشف و التحقيق
فإذا دخل العبد حضرة الذات علما وشهودا يُرزق معرفة حكم وسلطان الحضرات بأسرها وذلك لأن معرفته لجمع الذات ستلقيه إلى معرفة الكثرة الأسمائية والصفاتية ولابد لإندراج الأسماء و الصفات في حكم الذات ألا ترى إلى قوله تعالى :( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ( 22 ) هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ) كيف دل على أسمائه الحسنى بعدما ابتدأ بذكر هوية غيبه الذاتي…لذلك إذا ظهر سلطان الذات غابت الأفعال و الصفات في حكمها، وسلطانها لا يظهر إلا يوم القيامة بعودة جميع الأسماء إلى سلطان ذاته ويرجع كل اسم الى حكم أصله حيث تفنى التجليات الأسمائية ويبقى سلطان الذات قائما ما شاء الله إلى أن يعود حكم التجلي الأسمائي الأخروي فقد أخرج ابن مردويه والبيهقي في “البعث” عن أنس رفعه في قوله : ( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله )الآية . قال : ( فكان ممن استثنى الله جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول الله – وهو أعلم : يا ملك الموت من بقي؟ فيقول : بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك جبريل، وميكائيل وملك الموت، فيقول : توف نفس ميكائيل، ثم يقول -وهو أعلم- يا ملك الموت من بقي؟ فيقول : بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك جبريل وملك الموت، فيقول : توف نفس جبريل، ثم يقول -وهو أعلم- : يا ملك الموت من بقي؟ فيقول : بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك ملك الموت وهو ميت، فيقول : مت، ثم ينادي : أنا بدأت الخلق وأنا أعيده، فأين الجبارون المتكبرون؟ فلا يجيبه أحد، ثم ينادي : لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيقول هو : لله الواحد القهار : ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون )…أما في الدنيا فيبقى كل اسم على حدى ببقائه في أمرية خصوصيته بظهور تجلياته الدنيوية وذلك لأن الاخرة لها حكم جمع الفرق كما سيحصل عند عودة وجمع المسلمين بل و الأمم جميعا على شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ولما كان صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق معرفة بربه كان له هذا الانفراد في خصوصية جمع الكثرة والفرق فهو الذي أوتي جوامع الكلم لذلك هذه المنصة التي هي مقام المنفرد انفرد بها السيد الجامع و الواسطة العظمى الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم…فكانت بعثته للعالمين أجمعين بعثة عامة لأن قابليته تسع كل القابليات فهو النبي بالأصالة و الأنبياء خلفاؤه وجميع الأمم امته حتى اندرج الكل تحت لوائه…فهو الرحمة المهداة كما قال تعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) الأنبياء الآية 107…وقال تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) الأعراف الآية 158…وقال تعالى : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) سبأ الآية 28…وقال تعالى : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ) الأحزاب الآية 45 و46…لقد اخترنا هذه الآيات الأربع من أجل فهم هذا المقام الأسمى، فمقامه محمود بكل لسان وقرآنه جامع لكل الكتب المنزلة فهو أحدية ذلك المجموع ومجموع تلك الأحدية وهو الذي يجعل الأخلاق كلها مكارم.
لذلك كان من أعظم مظاهر رحمته المرسلة للعالمين هي الوصول إلى التوحيد الخاص إذ لا تدرك الرحمة إلا به…فهو سبب الزلفى من الله و الاختصاص، فمن أعرض عن هذا التوحيد فقد أعرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن تعلم أن هذا المقام هو فرض عين وليس على الاختيار فلا تتخيل أنك عند ذكرك لإسمه و انت معرض عن نوره تكون مقربا…أو أن اعراضك عن نوره لا شيء فيه بل هو عين البعد و القطيعة فاحذر الظلمة وسمومها…والدخول إلى التوحيد الخاص يستوجب التخلي عن القواطع التي جمعها أهل الله تعالى في خمسة أصناف وهي : النفس و الشيطان و الدنيا و الهوى والناس .
اما قوله تعالى في الآية السابقة : (إني رسول الله إليكم جميعا ) يعني كيف ما كان جنسه لذلك كانت خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم للناس جميعا من حيث ختمية ولايته فمن كان مثلا من أولياء امته موسويا أو عيساويا فهو غافل بحكم عدم تمكنه من باقي الحضرات أما من صار على درب النبي صلى الله عليه وسلم فانه لا يتقيد عندئذ في حضرة ولا جنس ولا قبيلة ولا زمان او مكان لكونه يتبع الذي بُعث للثقلين جميعا…فهذا دليل واضح على أنه لا غنى لأي عبد أراد معرفة الحق تعالى إلى بمتابعة سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن…فالترقي في مشاهدة الربوبية لا نهاية له فكل من اعتقد بفكره وسولت له نفسه أنه قد وصل وتهاون في الأمر و النهي وكف عن الطلب فذلك عبد مخذول قد وصل..ولكن إلى صقر.
أما الوصول إلى الحق عزوجل فهو غير نهائي مادام الحق لا نهاية له وان شئت أن تجعل له بداية وغاية فاجعل بدايته التوحيد الخاص وغايته الترقي في العجز عن معرفته…وكذلك الأدب في العبودية لا نهاية له فكلما ترقى العبد في المعرفة و تقلب في أنوار القرب إلا زاد أدبا في العبودية ومتى ما وجدت العبد قد حرم الآداب فاعلم أنه قد طرد لسياسة الدواب .
اما الآية 28 من سورة سبأ فقد جاء الحديث النبوي يؤكد معناها حيث روى جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة “متفق عليه…فليس بعد بيانه صلى الله عليه وسلم بيان.
أما قوله تعالى في سورة الأحزاب: ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ) يعني أرسلناك بالحقيقة شاهدا فهو شاهد الحق فمن شهد نوره صلى الله عليه وسلم وصل به إلى الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم : (من رآني فقد رأى الحقّ فإن الشيطان لا يتكوّن بي) رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في صحيحه، أي من عرفني فقد عرف الحقّ…والمقصود شهود نوره صلى الله عليه وسلم الذي به تتوصل القلوب و الأرواح إلى معرفة الحق تعالى، لذلك كانت رؤية نوره الشريف عند العارفين هي أسمى المكاسب و أغلى المطالب…فهو صلى الله عليه وسلم السراج المنير الذي أُسرجت حقيقته النورانية بحكم تجلي اسمه تعالى النور لذا تنورت بنوره عيون قلوب العباد المؤمنين الذين ذاقوا حقيقة الإيمان كما في حديث حارثة : أصبحت مؤمنا حقا…فأصبحوا يأتون حضرة الحق بنوره ويستضيئون به صلى الله عليه وسلم فهو الشمس المشرقة التي ترسل شعاعها لكل من آمن به وصدق به…فلا يصل واصل إلى الحق إلا من اتبع أثره وقدمه فصار له إماما صلى الله عليه وسلم صلاة لا تنقضي إلى يوم القيامة…ولقد قال تعالى إظهارا لنور حبيبه صلى الله عليه وسلم: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( 15 ) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) المائدة الآية 15 و16…ففي هذه الآية واضح أن الأمر من الله نور، وليس المقصود هنا القرآن، بل المصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك صريح ما يشير إليه قوله تعالى ( من الله نور) لان حقيقته نورانية لذلك لم يكن عنده ظل وكان ينظر من أمامه كما ينظر من ورائه كما جاء في السيرة…فنوره سبق رسالته بحكم حديث : ( نور نبيك يا جابر)… فكأن نوره اللطيف تمثل بهيئة الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، كما تمثل جبرائيل عليه السلام بهيئة البشر السوي لمريم (عليها السلام) . فلا فرق بين تمثل الطين وتجسده بهيئة الإنسان السوي وبين تمثل النور بهيئة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم…فهذه هي حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : أنه نور محض تكثف وتجسد بإذن الله تعالى حتى ظهر بالصورة النبوية في وقت معلوم رحمة للعالمين ، ثم تلطف عن رؤية الأنظار حين انتهى وقت ذلك الظهور حتى عاد إلى حالته المطلقة الروحية…ولا يتنافى ذلك مع كونه خلق صلى الله عليه وسلم من طين فهذه خلقته وتلك حقيقته فلا تعارض بين روحانيته وبشريته صلى الله عليه وسلم…فهناك من انكر عنه بحجاب الجسد، و هناك من انكشف له لمعانه فصار من اتباعه، وهناك من اظهر له الحق حقيقة نوره فكان من المقربين…وهذا التمثل النوري هو الرحمة بعينها حتى يظهر كاف الاحسان و حتى تتضح تبعية الصور العدمية لرب العالمين على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن النور متى ما أطلق على الحق فهو – أي النور- في أصله صفة أزلية قائمة بالذات الاحدية ، وبواسطته أظهر الله سبحانه وتعالى السماوات والأرض من العدم إلى الوجود ، لأن النور إذا تجلى على شيء أو في شيء أظهره ، قال تعالى : (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض )، وبواسطة هذا النور اكتسبت جميع الممكنات مظاهرها الوجودية والمعرفية ، فكان النور للوجود كالروح للجسد ، فصفة النور : هي مبدأ الخلق والإيجاد والظهور والمعرفة لجميع الممكنات .
و قال صلى الله عليه وسلم: (أول ماخلق الله تعالى نوري)، من ذلك النور تفرعت الأنوار وتطورت الأطوار…فالنور في قوله تعالى : (الله نور السماوات والأرض) هو النور المجرد ، وأما النور الإضافي المخلوق المعبّر عنه بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد مثّله بقوله ( مثل نوره كمشكاة ) فنوره هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فلذلك يعطي الله المثل للنور المجرد حتى يقيده بالمشكاة التي فيها مصباح…الخ، أما حقيقة النور الالهي فلا تسطتيع الحديث عنها فلهذا وقع التشبيه على المضاف لا على المضاف إليه الذي هو النور الأول المجرد، فسلمت من ذلك مرتبة التنزيه من أن يحوم حولها تشبيه .