بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده
باب التقوى
التقوى وصية الله للأولين و الآخرين. قال الله تعالى :” و لقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و إياكم أن اتقوا الله . سورة النساء
وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه و بين ما يخافه و يحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لـربه أن يجعـل بينه و بيـن مـا يخشـاه مـن ربـه من غضبه و سخطه و عقــابه وقــاية تقيه من ذلك و هو فعل طـاعته و اجتناب معاصيه
قال الله تعالى : و أما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى
و قال سيدنا علي كرم الله وجهه قال النبي صلى الله عليه و سلم : من اتقى الله عاش قويا و سار في بلاد آمنا
والقصان لابنه : أي الخصال خير؟ قال الدين، قال فإن كانت اثنتين، قـــــال الدين و المـــال، قال فإن كانت ثلاثا قال الدين و المال و الخلق، قال فإن كانت أربعا فزاد حسن الخلق، قال فإن كانت خمسا؟ فزاد السخاء، قال فإن كانت ستا، قال يا بني إذا اجتمعت فيه الخمس خصال فهو تقي تقي، و لله ولي، و من الشيطان بريء.
و عن أبي ذر جندب بن جنــــادة و أبي عبد الرحمــان معـاذ بن جبل (ض) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” اتق الله حيثما كنت و اتبع السيئة الحسنة تمحها و خالق الناس بخلق حسن ” رواه الترمذي
أخبرنا خبرا مفاده أن أحد الصالحين كان مع ثلاث نفر من الناس و كان يحب أحدهما فقال الآخران لماذا تفضله علينا ؟ فأعطى الرجل الصالح لكل من الثلاثة طائرا، و قال لكل منهم اختبئ حيث لا يراك أحد و اذبح. فذهب الثلاثة فذبح اثنين منهما و الذي يحبه الرجل الصالح لم يذبح ثم رجعوا جميعا و سأل الرجل الصالح الذي لم يذبح فقال له لماذا لم تذبح الطائر ؟ قال طلبت مني أن لا يراني أحد و إني كلما حاولت أن أختبئ عن أعين الخلق اختبأت و لكن الاختباء عن الذي خلقني فهو محال فكيف أختبئ عن من هو معي؟
قال الله تعالى” و هو معكم أين ما كنتم ” و من حديث لهيعة عن أبي الزبير عن أبي طفيل عن معاذ أن النبي صلى الله عليه و سلم بعثه إلى قـوم فقـال يا رسول الله أوصنـي، فقال: أفش السلام و أبذل الطعـام و استح من الله استحيـاء رجل ذي هيئة من أهلك، و إذا أسأت فأحسن و لتحسن خلقك ما استطعت
و خرج الإمام من حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له: أوصيك بتقوى الله في ســــر أمرك و علانيته، و إذا أسأت فأحسن، و لا تسألن أحدا عن شيء و إن سقط ســــــوطك، و لاتقبض أمـانة و لاتقض بيــن اثنـين” و عن أبـي ذر رضي الله عنه قلت يـا رسول الله علمنــي عملا يقربنـي من الجنة و يباعدني عن النار، قال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة، فّإنها عشر أمثالها، قلت يا رسول الله أمن الحسنات لا إلاه إلا الله ؟ قال هي أحسن الحسنات
و عن أنس رضي الله عنه قال:”بعث النبي صلى الله عليه و سلم معاذا بن جبل إلى اليمن فقال: يا معاذ اتق الله و خالق الناس بخلق حسن، و إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة، فقال: قلت يا رسول الله لا إلاه إلا الله من الحسنات؟ قال هي من أكبر الحسنات
و عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه و سلم ” أنه سئل ما أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قال تقوى الله و حسن الخلق ” خرجه الإمام أحمد و بن ماجة. فهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق الله و حقوق عباده فإن لله على عباده أن يتقوه حق تقاته، و التقوى وصية الله للأولين و الآخرين
قال الله تعالى :” و لقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و إياكم أن اتقوا الله ” سورة النساء. و أصل التقوى أن يجعل العبد بينه و بين ما يخافه و يحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لـربه أن يجعـل بينه و بيـن مـا يخشـاه مـن ربـه من غضبه و سخطه و عقــابه وقــاية تقيه مــــــــن ذلك و هو فعل طـاعته و اجتناب معاصيه
و تارة تضاف التقوى إلى إسم الله عز و جل كقوله سبحانه و تعالى:”و اتقوا الله الذي إليه تحشــــــرون” و قوله:” يا أيها الذين امنوا اتقوا الله و لتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون” سورة الحشر، فإذا أضيفت التقوى إلى الله سبحانه و تعالى فالمعنى اتقـوا سخطه و غضبه و هو أعظم ما يتقى، و عــــــن ذلك ينشــــأ عقـابه الدنيـوي و الأخروي. قال تعالى:”و يحذركم الله نفسه” سورة آل عمران و قال تعالى” إلا أن يشاء الله هــو أهل التقــــــوى و أهل المغفرة” سورة المدثر. فهو سبحانه أهل أن يخشى و يهاب و يجل و يعظم في صدور عباده
و في الترمذي عن أنس عن النبـي صلى الله عليه و سلم في هذه الآية” إلا أن يشـاء الله هو أهل التقـــوى و أهـــل المغفرة
و قـال الله سبحـانـــه و تعالى:” أنا أهل التقوى فمن اتقاني، فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له”. وتارة تضاف التقوى إلى مكانه كالنار، كما قال تعالى:”و اتقوا النار التي أعدت للكافرين” سورة آل عمران و قال تعالى:”فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة أعدت للكافرين” وتارة إلى زمانه كيوم القيامة و قال تعالى:”و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله” سورة البقرة
ويدخل في التقوى التامة تطبيق الواجبات، و اجتناب المكروهات، و هي أعلى المقامات قال الله تعالى:” الم ، ذلك الكتاب لا ريب، فيه هدى للمتقين الذين يومنون بالغيب و يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون و الذين يومنون بما أنزل إليك و ما أنـزل من قبلك و بالآخـرة هم يوقنون” سوره البقرة. و قوله سبحانه و تعالى:”و لكــن البـر مـن آمـن بالله و اليـوم الآخـر و الملائكـة و الكتـب و النبيين و أتى المـال على حبه ذوي القربـى و اليتـامى و المساكين و بن السبيل و السائليــن وفي الرقــاب و أقــام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون”. سورة البقرة.
قال معاذ بن جبل:” ينادي يوم القيامة أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب منهم و لا يستتر قالوا من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك و عبادة الأوثان و أخلصوا لله العبادة
خرج موسى عليه السلام يوما يرعى الغنم فانتهى إلى واد كثير الذئاب فأدركه التعب و النوم فبقي متحيرا أن اشتغل بالغنم عجز عن ذلك من غلبة النـوم و التعب و إن نـام غارت الذئاب على الغنم، فرمق بطـرفه إلى السماء، و قال : أحاط علمك، و نفذت إرادتك و سبق تقديرك، ثم وضع رأسه و نام فلما استيقظ وجد ذئبا واضعا عصاه على عاتقه و هو يرى الأغنام فتعجب من ذلك فأوحى الله إليه يا موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد ( حكاية ) قال أحدهم : ركب قوم سفينة في البحر فظهر لهم شخط على وجه الماء و قال : معي كلمة أبيعها بألف دينار فقال أطرحها في البحر فطرحها، فقال : قل من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب. فقالها فقال احفظها جيدا، فلما حفظها انكسر المركب و بقى الرجل على لوح يقرأ هذه الآية، فرماه الموج في جزيرة، فوجد فيها امرأة جميلة، فسألها عن أمرها، فقالت أنا من بلدة كذا وكل يوم يطلع من البحر جني في وقت كذا، فيراودني عن نفسي، فيحفظني الله منه، فقال اجعلني في مكان أراه، و لا يراني ففعلت، فلما خرج الجني من البحر و رآه قرأ الآية فالتهب نارا، ففرحت المرأة بذلك ثم أخذت بيد الرجل لكهف فيه من الجوهر و اللؤلؤ شيء كثير، فمرت بهما سفينة فأشارا إليهما فقصدهما أهلها و أخذ كل واحد من الجوهر و اللؤلؤ ما لا يعلمه إلا الله (فائدة) قال وهب:” الإيمان عريان و لباسه التقوى، و ريشه الحياء، و رأس ماله العفة”. و قال بعضهم:” من سره أن تدوم له العافية فليتق الله
و عن النبي صلى الله عليه و سلم ” لو أن عبدا اتقى الله في بيت في جوف بيت إلى سبعين بيتا على كل بيت باب عليه قفل من حديد لألبسه الله رداء عمله حتى يتحدث الناس به
و ذكر الدميري في حياة الحيوان، أن الأسد لا يأكل إلا من فعل محرما
و قال بن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى :” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ” أي أطيعوه حق طاعته. و قال مجاهد: أي يطاع فلا يعصى و يذكر فلا ينسى، و يشكر فلا يكفر. و قال الغزالي رحمه الله في منهاج العابدين: التقوى في القـرآن ثلاثة : تقـــوى عن الشــرك، و تقــوى عن المعاصي، و تقوى عن البدع فذلك قوله تعالى:” ليس على الذيـن ءامنـوا وعملوا الصالحـات جنـــاح في ما طعمـوا إذا مـا اتقــوا و ءامنـوا و عملـوا الصالحـات ثم اتقـــوا و ءامنوا ثم اتقــــــــوا و أحسنوا
و قال الرازي قال الأكثرون: الأول عمل الاتقاء، و الثاني دوام الاتقاء، و الثالث اتقاء الظلم للعباد مع الإحسان إليهم و الآية نزلت في تحريم شرب الخمر، فقالوا يا رسول الله إن أقواما ما شربوها يوم أحد ثم قتلوا ، فبين الله تعالى أن لا إثم عليهم لأنهم شربوها قبل التحريم، و الطعام إسم مشترك يقع على المأكول و المشروب
قال ابن عباس رضي الله عنه: المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى يرجون رحمته في التصديق بما جاء به. و قال الحسن: المتقون الذين اتقوا ما حرم الله عليهم و أدوا ما افترض الله عليهم. و قال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار و لا بقيام الليل و التخليط في ما بين ذلك، و لكن التقوى ترك ما حرم الله و أداء ما افترضه الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير. و قال طارق بن حبيب: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، و أن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله. و عن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقى الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة، و حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حجابا بينه و بين الحرام فإن الله بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال تعالى” فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره ” فلا تحقرن شيئا من الخير أن تفعله و لا شيئا من الشر تتقيه. و قال الحسن” ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام
و قال الثوري: إنما سموا متقين لأنهم اتقوا في الحرام فسماهم الله متقين . و قد سبق ” لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ” و حديث ” من اتقى الشبهــات استبـــرأ لدينه و عرضه
و قال النصرابادي :” من لزم التقوى اشتاق إلى مفارقة الدنيا لأن الله سبحانه يقول :” و للدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون” سورة الأنعام . و قال بعضهم : من تحقق في التقوى هون الله على قلبه الأعراض عن الدنيا . و قال أبو عبد الله الروباذري : التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله
و قال ذو النون المصري : التقي من لا يدنس ظاهره بالمعارضات، و لا باطنه بالعلالات و يكون واقفا مع الله موقف الاتفاق
و قال بن عطاء : للتقوى ظاهر و باطن فظاهره محافظة الحدود و باطنه النية و الإخلاص
و قال ذو النون
فلا عيش إلا مع رجال قلوبهـم تحن إلى التقوى و ترتـــــاح للذكر
سكون إلى روح اليقين و طيبه كما سكن الطفل الرضيع إلى الحجر
و قيل: يستدل على التقوى الرجل بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، و حسن الرضا فيما قد نال و حسن الصبر على ما قد فات. و قال طلق بن حبيب: التقوى عمل بطاعة الله على نور من الله مخافة عقاب الله. و قال أبو الحسن الزنجاني: من كان رأس ماله التقوى كلت الألسن عن وصف ربحه
و يحكى أن أبا حنيفة لا يجلس في ظل شجرة غريمه و يقول في الخبر “كل قرض جر نفعا فهو ربا ” و قيل التقوى على وجوه للعامة تقوى الشرك، و للخاصة تقوى المعاصي، و للأولياء تقوى التوسل بالأفعال، و للأنبياء تقوى نسبة الأفعال إذ تقواهم منه إليه
و عن علي رضي الله عنه قال : سادة الناس في الدنيا الأسخياء، سادة الناس في الآخرة الأتقياء
و عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :”من نظر إلى محاسن امرأة فغض بصره في أول مرة أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه
و قال رويم : ما نجا من نجا إلا بصدق التقوى، قال الله تعالى :” و ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم” سورة الزمر
و قال بن عطا: ما نجا من نجا إلا بتحقيق الحياء قال الله تعالى:” ألم يعلم بأن الله يرى” سورة العلق. و في الجملة التقوى هي وصية الله لجميع خلقه و وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم لأمته. و كان صلى الله عليه و سلم إذا بعث أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله و بمن معه من المسلمين خيرا. و لما خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع يوم النحر وصى الناس بتقـوى الله و بالسمع و الطاعة لأمتهم. و لما وعض الناس قالوا له كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله و السمـــــع و الطاعة. و في الحديث لأبي ذر الطويل الذي خرجه ابن حبان و غيره قلت: يا رسول الله أوصني، قال:” أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله”. و خرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخذري قال:” قلت يا رسول الله أوصني، قال أوصيك بتقوى الله فإنه رهبانية الإسلام” و خرجه غيره و لفظه قال:”عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير”. و في الترمذي عن يزيد بن سلمة:” أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم قال: يا رسول الله إني سمعت منك حديثا كثيرا فأخاف أينسيني أوله آخره فحدثني بكلمة تكون جماعا، قال :” اتق الله فيما تعلم”و لم يزل السلف يتواصون بها. و كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في خطبته: أما بعد، فإني أوصيكــم بتقوى الله و أن تثنوا عليه بما أهل له، و أن تخلطوا الرغبة بالرهبة، و تجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز و جل أثنى على زكريا و أهل بيته فقال:” إنهم كانوا يسارعون في الخيرات و يدعوننا رغبا و رهبا و كانوا لنا خاشعين”. و كتب عمر إلى ابنه عبد الله: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز و جل فإنه من اتقاه وفاه ومن اقرضه جاراه و من شكره زاده و اجعل التقوى نصب عينيك و جلاء قلبك
اللهم عمر قلوبنا بشكرك و وفقنا للقيام بذكرك و آمنا من سطوة مكرك، و اغفر لنا و لوالدينا و لجميع المسلمين و المسلمات إنك أهل التقوى و أهل المغفرة و صل اللهم و سلم على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم تسليما
بقلم الفقير أحمد الهبري